في الدورة الـ76 (28 أغسطس/ آب ـ 7 سبتمبر/ أيلول 2019) لـ"مهرجان فينسيا السينمائي الدولي"، شارك 19 فيلمًا في "آفاق"، ثاني أهمّ مسابقة بعد المسابقة الرسمية. و"آفاق" مهتمّة بالأفلام الأولى والثانية لمخرجين شباب، بينها "أتلانتس"، للأوكرانيّ فالنتين فاسيانوفيتش، أبرز تلك الأفلام، إذْ لم تتوفر لمسابقة هذا العام أفلام قوية، دراميًا أو فنيًا، مُقارنة بالأعوام السابقة. لا يعني هذا أنّ "أتلانتس" ليس جيدًا، أو لا يستحقّ "جائزة أفضل فيلم". فهو، فنيًا، يستحقها بجدارة، وإنْ يمكن اعتبار أنّ المعالجة الدرامية والأداء التمثيلي أقلّ أهمية، مقارنةً بفيلمين أو ثلاثة أخرى.
"أتلانتس" فيلم سياسي بامتياز، لكنّه غير مُسيَّس نهائيًا. رغم أجواء ما بعد الحرب، التي تدور أحداثه فيها، فإنّ هدفه الأساسي يتّجه أكثر نحو الإنسانيّ. يستعرض تبعات السياسة والحرب والدمار على البشر والحجر. فيه تلميحات عديدة. يُحيل كثيرًا إلى الواقع والاضطرابات الحالية داخل أوكرانيا. وهذا، رغم أنّ أحداثه تجري في المستقبل القريب: "شرق أوكرانيا، 2025، بعد مرور عام على انتهاء الحرب" (كما في بداية الفيلم).
يُحيل "أتلانتس" إلى تمرّد، أو حرب صغيرة، أو محاولة انفصال وتأسيس دولة ما على الحدود الأوكرانية. يتّخذ من شرق أوكرانيا مثلاً على حرب شاملة مستقبلية، يُفترض بها أنْ تكون قد حصلت في الأراضي الأوكرانية كلّها، من دون تحديد طرفي النزاع، أو أطرافه. لكن، يبدو أن الطرف الروسي شريكٌ فيها، إذْ تقول إحدى الشخصيات (الحوارات نادرة للغاية): "تلزمنا 10 أعوام للتخلّص من الدعاية الشيوعية، ومن تلك الأساطير والخرافات كلّها".
المهمّ أنّ حربًا حصلت، والأحداث الآن تدور بعد انتهائها منذ فترة وجيزة. المنطقة الشرقية لم تعد تصلح للسكن نهائيًا، وتحتاج إلى عقودٍ كثيرة، كي تستعيد، ولو تدريجيًا، ما كانت عليه. في مناطق الصراع، خصوصًا الـ"دون باس"، تفيد التقارير بأنّه لا يُمكن مقارنة الخسائر البشرية والمادية بالدمار والكارثة البيئية الموجودة هناك. هكذا تنكشف الإحالة والربط الوثيق بين الواقع الحالي، والتنبؤ بمستقبل أوكرانيا.
رغم أنّه "رسالة" تحذيرية منسوجة كليًا بخيوط من التشاؤم، إلّا أنّ "أتلانتس" يبثّ أملاً خفيًا، يتسرّب تدريجيًا، بطريقة فنية غير مباشرة، إلى المتلقّي، فلا يتركه مع السواد الحالك للصورة والحياة. فوسط الدمار، الذي يظهر طول مدّة الفيلم، والعلاقات المُمزّقة بين الناس، إنْ تكن هناك علاقات، والمناطق الجدباء والموحلة والملوّثة، والغيوم الرمادية، والغربان والثلوج والبرد، واليأس والخوف من المرض، والموت الجاثم فوق الأرض وفي أعماقها؛ وسط هذا كلّه، يُمكن أن يكون هناك أملٌ. لذا، يرفض البطلُ اليأسَ المطلق، ومغادرة بلده. فهو لم يحارب ويخسر الكثير كي يترك البلد، كما يقول. يبقى في أوكرانيا، رغم الفرصة المُغرية المتاحة له، صدفة، للانتقال إلى أوروبا، للعيش والعمل.
لا أحداث في "أتلانتس"، بالمعنى المتعارف عليه. لكن، هناك سرد لمحاولة الجندي السابق سيرغي (أندري ريماروك) التكيف مع الحياة بعد الحرب، وخارج ما اعتاده كجندي محترف. يعاني اضطرابات ما بعد الحرب بشكلٍ واضح، خصوصًا ماديًا ونفسيًا. أما الاجتماعي، فغير موجود نهائيًا. هو منعزل عن الجميع، ويتجنّب العلاقات قدر المستطاع.
القصّة تحمل طبقات عديدة: جدوى الصراع المُسلح، وأساسًا، فائدة الفوز في الحرب وتحقيق النصر، بينما الأرض المستعادة نفسها تفقد أهميتها، بعد انعدام مقوّمات الحياة الصالحة فيها، عقودًا طويلة مقبلة. الحرب انتهت، لكن تبعاتها لا تزال مؤثّرة على النفوس والحجر. الأضرار البيئية، اللاحقة بالمياه والتربة، فادحة جدّا، ويتطلّب تعقيمهما وإصلاحهما 100 عام، لتصبحا صالحتَين مجدّدًا لحياة آمنة، وفقًا للحوار.
مصنع الحديد والصلب، الذي عمل سيرغي فيه، أُغلق لتطويره وجعله يواكب العصر، فاضطرّ للعمل على عربة نقل، توفّر مياهًا نظيفة للأماكن البعيدة، الملوّثة آبارها والمنقطعة مياهها العذبة. ذات مرة، يُصادف سيارة معطّلة لكاتيا (ليودميلا بيليكا)، التي يعلم لاحقًا أنّها خرّيجة قسم الآثار، وتعمل متطوّعة في منظمة "بعثة التوليب أو الخزامى الأسود"، القائمة على تبرّعات شحيحة، والتي تستخرج جثث الجنود وغيرهم من مقابر جماعية، ومن غيرها، ثم تحليلها للتعرّف عليها، بغية دفنها بشكلٍ لائق: "خدمة للموتى ولذويهم"، كما تقول له.
منذ لحظة لقائهما، ولوجود وقت فراغ كبير لديه، يشارك سيرغي كاتيا في عملها. عندها، تسيطر على الفيلم لقطات كثيرة عن استخراج الجثث، وفحصها بدقّة، بدءًا من الشعر، إن وُجِدَ، ثم الأسنان وألوان الملابس وأنواعها، إلخ. مشاهد تفنّن المُخرج في تنفيذها البطيء، بكلّ قسوة وبرود، ومن دون رحمة، كي تعلق في أذهان معاصريها، أو من سيعاصرونها، باعتبار ما سيحدث في تلك الحرب المستقبلية. تدريجيًا، وبصعوبة، تتطور العلاقة بين كاتيا وسيرغي، وتصبح نقطة نور، أو بصيص أمل وحيد.
فنيًا، يتكوّن الفيلم من مَشَاهد قليلة، تتألّف من لقطات طويلة، أو مُفرطة الطول. أحيانًا، تبدأ اللقطات قبل الحدث الدرامي، وغالبًا تبقى الكاميرا لدقائق بعد انتهائه. يغلب على اللقطات/ المشاهد حزن صامت. الفيلم ملوّن، لكن الغلبة للأسود والأبيض، كأنّها مَشَاهد جنائزية تودّع تاريخًا مضى، وتتأمّل ضبابية مستقبل يتشكّل.
يُعمِّق من تأثير تلك المَشَاهد استخدام الكاميرا الثابتة، والإيقاع شبه الميت لزمن بالكاد يمرّ. إضافة إلى أداء تمثيلي بارد وجامد، رغم صدقيته. الكاميرا الثابتة نفسها تساهم في اغترابيّة الأداء، بالتقاطها ما يجري من مسافة بعيدة وثابتة دائمًا.
في فيلم قائم على فنّيات بالغة الخصوصية، كتلك المذكورة أعلاه، يبرز المونتاج، المُنفَّذ في الكادرات نفسها، من دون الحاجة إلى التقطيع كثيرًا بين اللقطات. الكاميرا وعين المخرج أداتا المونتاج. لذا، ليس غريبًا أن يكون فالنتين فاسيانوفيتش المُصوّر والمونتير والسيناريست والمخرج. فنيًا، كلّ ما سبق محبوك بحِرَفية وتمرّس، ضمن رؤية جمالية لافتة للانتباه، أراد إخراجها بهذا النحو المُلامِس للوثائقيّ. رؤية فنية تستدعي، بشدّة، جماليات السينما الوثائقية للأوكرانيّ سيرغي لوزنيتسا.