23 اغسطس 2024
أوهام التطبيع وسقوط الربيع العربي
مثّل مؤتمر وارسو، والذي انعقد أخيرا، منعطفا جديدا لمرحلةٍ أكثر هزلية مما سبق، حيث يتوهم أصحابها أنه بإمكانهم الاندفاع نحو التطبيع مع إسرائيل، وإعلان مرحلة موت القضية الفلسطينية، تحت مسمّى صفقة القرن التي يندفعون نحوها، على وهم أنه تم الخلاص من ثورات الربيع العربي إلى غير رجعة، وأن ثورتهم المضادّة نجحت في الحفاظ على بقاء الأنظمة السياسية الحاكمة المستبدّة، وأنها قد أصبحت في منأى عن أي تداعياتٍ مستقبلية.
تتجلّى كومة الأوهام هذه اليوم، بشكل كبير، فيما يعتمل في المشهد العربي الكبير من الخليج حتى المحيط، خصوصا في دول الربيع العربي التي تعيش وعاشت حربا طاحنة بين الثورة والثورة المضادة، بين مشروعي الحرية والعبودية، ولم تحسم هذه المعركة بعد، وما زال مع الثوار فائض نضال لمواجهة كل الاحتمالات، ولن يقايضوا بكرامتهم شيئاً مهما كان ثمنه.
دعت إلى المؤتمر الوزاري في وارسو، الولايات المتحدة الأميركية، ونظم له مسؤول مراقبة النشاط الإيراني في الخارجية الأميركية، بريان هوك، ودُعيت إليه أكثر من ستين دولة على مستوى رؤساء الوزراء، لكن التمثيل فيها لم يكن لمعظم المشاركين يتعدى وزراء الخارجية، فيما عدا الولايات المتحدة التي مُثلت بنائب الرئيس مايك بنس.
صحيح أن عنوانه هو "المؤتمر الوزاري لتعزيز السلام والأمن في الشرق الأوسط"، ولكن هذا العنوان لم يكن سوى ستار وشعار لمهمة مختلفة عن العنوان، وهي إعادة تشكيل شرق أوسط
جديد، لا مكان فيه لمسمّى فلسطين، والقضية الفلسطينية، وإيجاد كيان جديد، هو تحالف يضم إسرائيل ودول الخليج العربي ومصر والأردن، تحت مسمّى مواجهة إيران ونفوذها الإقليمي المتزايد، فيما ذلك كله مجرد وهم وشعار تظليلي لحقيقة مؤتمر وارسو وأجنداته التي تقتضي التطبيع مع إسرائيل على حساب حقوق الشعب العربي الفلسطيني وقضيته العادلة. فمن الملفت أن دولا في الخليج واقعة تحت رحمة الحماية الأميركية، باتت اليوم بمثابة القفاز لتمرير الولايات المتحدة سياساتها وتصوراتها للمنطقة العربية كلها، عقب أحداث الربيع العربي وقبله، ولكن الآن بشكل أكثر جُرأةً ووقاحة. وهذه بدورها، أي هذه الدول، تسعى من خلال ما تمتلك من أموال مستغلةً الفراغ الكبير الذي تمر به المنطقة العربية بعد انهيار العراق وضياع مصر ودخول اليمن وسورية في دوامة الحروب الطاحنة. تسعى هذه الدول إلى احتكار تمثيل القرار العربي، ولذلك تسعى جاهدةً، في هذه المرحلة، بعد تصدّرها مشهد الثورات المضادة للربيع العربي، إلى أن تقرّر مصير القضية الفلسطينية، وكذا تتوهم أيضاً قدرتها على كبح مسيرة الثورة والتغيير في دول الربيع العربي.
شعار مواجهة إيران فارغ المضمون، غرضه دمج إسرائيل في المعادلة الجيوسياسية للمنطقة، فيما يتزايد نفوذ إيران، في الواقع، ويتجذّر في المنطقة، مستفيدة من السياسات الخليجية العدمية والمراهقة التي تتبعها في التعاطي مع الحراك الاجتماعي والديمقراطي العربي الذي مرّت وتمر به المنطقة العربية، على مدى السنوات الماضية، فأهدت سياسات خليجية مضادة لثورات الشعوب إيران نفوذا واسعا في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن ومصر أيضا. ويتوّهم حكام دول هذه السياسات أنهم تمكّنوا من إيقاف عجلة التغيير وربيع شعوب المنطقة الديمقراطي، من خلال دعمهم الثورات المضادة، وأنهم يمكن بعد ذلك، من خلال هذه السياسات، التحكم في مصير المنطقة العربية، والتقرير نيابةً عن أبنائها في قضاياها المصيرية. وقد بدأ هذا الوهم يتجلى في محاولة دمج إسرائيل التي ظل يُنظر إليها عربيا جسما غريبا،
على مدى عقود، وتكنّ لها الشعوب العربية عداءً كبيرا، وينظرون إليها خطرا وجوديا أيضاً.
ونظراً إلى المواقف غير المرحب بها عربياً، للأنظمة الخليجية، سواء تجاه الربيع العربي، أو تجاه موقفها من قضايا عربية مصيرية كثيرة، سعت هذه الأنظمة، بضغط أميركي واضح، من خلال أنظمة عربية ضعيفة وتابعة، كنظام عمر البشير في السودان، أو نظام الرئيس عبد ربه منصور هادي في اليمن، للتطبيع مع الثورات المضادة وإسرائيل معا، فأرسلت البشير إلى دمشق للتطبيع مع نظام بشار الأسد. كما حاولت، من خلال وزير خارجية اليمن، خالد اليماني، التطبيع مع الكيان الصهيوني. لكنّ الرد العربي الشعبي كان سريعا، ففي السودان تفجّرت ثورة شعبية عارمة في وجه البشير، فيما قوبل اليماني بموقف شعبي غاضب وصارم في وسائل التواصل الاجتماعي التي اضطرته إلى الخروج للإعلام لتوضيح ما جرى من جلوسه بجانب رئيس الوزراء الإسرائيلي في مؤتمر وارسو.
ختاماً، لا تزال الشعوب العربية حيةً، وتعبّر عن عدم تعبير الأنظمة الحاكمة عنها، في كل المواقف والمحطات المصيرية. وما يجري في السودان وغيره، هو الموقف الذي لا يزال يعبر عن جمهور الربيع العربي من المحيط إلى الخليج، عن رغبته وتوقه إلى الحرية والكرامة التي ضحّى ويضحى من أجلها، ولا يمكن بأي حال التخلي عن هذه الأحلام والتطلعات العربية، مهما كانت التضحيات باهظة وكبيرة. وبالتالي، لا الربيع العربي سقط، ولا يمكن أن تصبح إسرائيل جزءاً من نسيج المنطقة الحضاري والجيوسياسي، وما جرى طوال السنوات الثماني الماضية ليس سوى واحدةٍ من محطات الثورة الديمقراطية العربية، ثورة الحرية والكرامة والاستقلال.
دعت إلى المؤتمر الوزاري في وارسو، الولايات المتحدة الأميركية، ونظم له مسؤول مراقبة النشاط الإيراني في الخارجية الأميركية، بريان هوك، ودُعيت إليه أكثر من ستين دولة على مستوى رؤساء الوزراء، لكن التمثيل فيها لم يكن لمعظم المشاركين يتعدى وزراء الخارجية، فيما عدا الولايات المتحدة التي مُثلت بنائب الرئيس مايك بنس.
صحيح أن عنوانه هو "المؤتمر الوزاري لتعزيز السلام والأمن في الشرق الأوسط"، ولكن هذا العنوان لم يكن سوى ستار وشعار لمهمة مختلفة عن العنوان، وهي إعادة تشكيل شرق أوسط
شعار مواجهة إيران فارغ المضمون، غرضه دمج إسرائيل في المعادلة الجيوسياسية للمنطقة، فيما يتزايد نفوذ إيران، في الواقع، ويتجذّر في المنطقة، مستفيدة من السياسات الخليجية العدمية والمراهقة التي تتبعها في التعاطي مع الحراك الاجتماعي والديمقراطي العربي الذي مرّت وتمر به المنطقة العربية، على مدى السنوات الماضية، فأهدت سياسات خليجية مضادة لثورات الشعوب إيران نفوذا واسعا في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن ومصر أيضا. ويتوّهم حكام دول هذه السياسات أنهم تمكّنوا من إيقاف عجلة التغيير وربيع شعوب المنطقة الديمقراطي، من خلال دعمهم الثورات المضادة، وأنهم يمكن بعد ذلك، من خلال هذه السياسات، التحكم في مصير المنطقة العربية، والتقرير نيابةً عن أبنائها في قضاياها المصيرية. وقد بدأ هذا الوهم يتجلى في محاولة دمج إسرائيل التي ظل يُنظر إليها عربيا جسما غريبا،
ونظراً إلى المواقف غير المرحب بها عربياً، للأنظمة الخليجية، سواء تجاه الربيع العربي، أو تجاه موقفها من قضايا عربية مصيرية كثيرة، سعت هذه الأنظمة، بضغط أميركي واضح، من خلال أنظمة عربية ضعيفة وتابعة، كنظام عمر البشير في السودان، أو نظام الرئيس عبد ربه منصور هادي في اليمن، للتطبيع مع الثورات المضادة وإسرائيل معا، فأرسلت البشير إلى دمشق للتطبيع مع نظام بشار الأسد. كما حاولت، من خلال وزير خارجية اليمن، خالد اليماني، التطبيع مع الكيان الصهيوني. لكنّ الرد العربي الشعبي كان سريعا، ففي السودان تفجّرت ثورة شعبية عارمة في وجه البشير، فيما قوبل اليماني بموقف شعبي غاضب وصارم في وسائل التواصل الاجتماعي التي اضطرته إلى الخروج للإعلام لتوضيح ما جرى من جلوسه بجانب رئيس الوزراء الإسرائيلي في مؤتمر وارسو.
ختاماً، لا تزال الشعوب العربية حيةً، وتعبّر عن عدم تعبير الأنظمة الحاكمة عنها، في كل المواقف والمحطات المصيرية. وما يجري في السودان وغيره، هو الموقف الذي لا يزال يعبر عن جمهور الربيع العربي من المحيط إلى الخليج، عن رغبته وتوقه إلى الحرية والكرامة التي ضحّى ويضحى من أجلها، ولا يمكن بأي حال التخلي عن هذه الأحلام والتطلعات العربية، مهما كانت التضحيات باهظة وكبيرة. وبالتالي، لا الربيع العربي سقط، ولا يمكن أن تصبح إسرائيل جزءاً من نسيج المنطقة الحضاري والجيوسياسي، وما جرى طوال السنوات الثماني الماضية ليس سوى واحدةٍ من محطات الثورة الديمقراطية العربية، ثورة الحرية والكرامة والاستقلال.