تشكل التطورات الأخيرة في واشنطن، لحظة مفصلية في إدارة الرئيس دونالد ترامب، وسيكون لها أبعاد طويلة الأمد على السياسة الأميركية. في هذا الصدد، دخلت العلاقات الأميركية – الروسية، مرحلة جديدة من التصادم المستجد، لكن المحدود. كما حملت تطورات جديدة ضمن مسلسل "صراع البلاط" جنرالاً جديداً إلى البيت الأبيض ليكون "حارس الهيكل" في مكتب بيضاوي مشرّع الأبواب على الفضائح والنصائح. كما أن هناك قناعة ولو متأخرة، لدى فريق ترامب، بأنه "لا بدّ من تحوّل في الأولويات الداخلية، بالتزامن مع ملامح جفاء بين البيت الأبيض والحزب الجمهوري". وفرضت المؤسسة الحاكمة إيقاعها على البيت الأبيض في ملف العلاقة مع الكرملين، مع موافقة ترامب على توقيع قانون للكونغرس، يكبّل قدرة الرئيس على إدارة التفاوض في مسألة رفع العقوبات الأميركية عن روسيا. ما يعني إنهاء مفاعيل الاتفاق الضمني الذي أجراه مستشار الأمن القومي الأسبق مايكل فلين مع السفير الروسي الأسبق في واشنطن سيرغي كيسلياك، بأن "تتريث موسكو بالرد على قرارات إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما نهاية العام الماضي بطرد دبلوماسيين روس من الولايات المتحدة".
حتى الآن، يبدو أن هناك حرصاً من ترامب وبوتين على ألا ينعكس ملف العلاقات الثنائية على التعاون بين الطرفين في قضايا دولية شائكة مثل سورية. لكن قد يكون من الصعب إدارة الاتفاق الروسي - الأميركي حول جنوب سورية، في ظل هذا الضجيج. ففي نهاية المطاف، تحتاج موسكو إلى غطاء واشنطن لشرعنة مسار أستانة. ومن دون ضمانات روسية قد تخسر الولايات المتحدة مصالحها السورية. أما التحدي بالنسبة لترامب، فلا ينحصر باستمرار ملف التحقيق بتواطؤ حملته مع الكرملين، بل أيضاً يصل إلى مواجهة الأصوات المتزايدة داخل إدارته ضد التقارب مع روسيا، والتي يقودها نائب الرئيس مايك بنس. ويعني ذلك أن القصف الأميركي على مطار الشعيرات في شهر إبريل/نيسان الماضي لم يكن كافياً لإقناع الكونغرس بأن ترامب جادّ في نواياه بتحدي موسكو.
في ملف التعيينات الإدارية، يبدو أن العسكرة تتسع داخل إدارة ترامب، مع تعيين وزير الأمن الداخلي الأسبق الجنرال جون كيلي في منصب كبير موظفي البيت الأبيض، وتعيين الكولونيل مايكل بيل، كبير مستشاري الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي. وهذه التغييرات تعني عملياً أمرين: أولاً إبعاد كبير الموظفين الأسبق برينس بريبوس من منصبه، تقطع قناة تواصل رئيسية لإدارة ترامب مع مؤسسات الحزب الجمهوري، وثانياً إزاحة ديريك هارفي من منصب كبير مستشاري الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، تعني إسكات صوت متشدد ضد النظام الإيراني كان يشوّش على استراتيجية وزارة الدفاع (البنتاغون) في الشرق الأوسط.
هناك تساؤلات وتحديات كثيرة أمام كيلي؛ أولاً حول علاقته مع الرئيس، وإذا ما سيكسب ثقته وسيقنعه بضبط النفس في المواقف عبر الإعلام أو عبر موقع "تويتر". التجربة أثبتت أن ترامب يتفاعل إيجابياً مع العسكر، لكن كيلي سيعمل بشكل وثيق مع الرئيس وسيلتقيه يومياً، ما قد يزيد احتمالات التصادم نظراً لشخصية كيلي القوية. ويبقى السؤال أيضاً: كيف ستكون علاقة كيلي مع صهر الرئيس ومستشاره جاريد كوشنر، وكبير الاستراتيجيين ستيف بانون، الذي خسر حليفاً بخروج رينس بريبوس من منصبه.
في الساعات الأولى من تولي منصبه، بدأ كيلي عمله في محاولة لإنقاذ أجندة الرئيس التشريعية التي تهاوت بعد فشل البيت الأبيض بإلغاء مفاعيل قانون "أوباماكير" للرعاية الصحية، وذلك في سعيه لمدّ الجسور مع قيادات ديمقراطية في الكونغرس لتمرير قوانين في الأسابيع المقبلة تعطي ترامب بعض الإنجازات، قبل الدخول في موسم انتخابات الكونغرس النصفية التي قد تعاقب الرئيس سياسياً في حال استمر في التعثر والفضائح. هذا التكتيك الجديد يعني أن البيت الأبيض ربما لم يعد يريد انتظار الأصوات الجمهورية فقط، ويبحث بالتالي عن أرضية مشتركة مع الديمقراطيين لإقرار حد أدنى من القوانين، لا سيما بعد الصفعة القوية التي وجهها السيناتور الجمهوري جون ماكاين الذي أنهى باقتراعه في الكونغرس طموح البيت الابيض بإلغاء مفاعيل قانون أوباما للرعاية الصحية. كل هذه العوامل أدت إلى تحوّل داخلي في الأولويات عند البيت الأبيض ليتم التركيز في المرحلة المقبلة على الملف المالي من إصلاح النظام الضريبي إلى رفع سقف الدين العام الفيدرالي. مع أن التخبط داخل البيت الأبيض غطّى على قضية التحقيق الروسي، تثبيت تعيين كريستوفر راي هذا الأسبوع مديراً لمكتب التحقيق الفيدرالي (أف بي أي) بأكثرية 92 صوتاً في مجلس الشيوخ سيكون له أيضاً تداعيات في واشنطن في ظل تساؤلات عن مقاربته لملف التحقيق الروسي وإذا ما سيتعرض لانتقادات من ترامب في المرحلة المقبلة.