ينحصر الصراع السياسي التونسي في الفترة الأخيرة ما بين أحزاب الائتلاف الحكومي، بحيث سيطر على مشهد السجال السياسي بالكامل تقريباً، يضاف إليه فقط حراك الحزب الدستوري الحر، الذي تقوده عبير موسي، والتي تسيطر تقريباً على لواء المعارضة، بينما اختفت من الساحة أحزاب وشخصيات عديدة، يسارية ويمينية ووسطية، كانت تشكل أصواتاً معارضة على مدى السنوات الأخيرة.
واختطف البرلمان التونسي كل النقاش السياسي في البلاد، حتى كادت الساحة تخلو من أي جدل خارجه، باستثناء تحركات احتجاجية شعبية تلقائية، أو مواقف لمنظمات وطنية تعمّر هذا الفراغ الهائل، وهو ما يقود إلى انعدام التوازن في المشهد، لأن الديمقراطية تحتاج خصوصاً إلى أحزاب معارضة قوية.
الإشكال في تونس أن الوضع معقد، فالطرف الذي من المفروض أنه في الحكومة لديه شق من المعارضة في البرلمان
وأكد المحلل السياسي عبد المنعم المؤدب، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه "ظهر انطلاقاً من التجربة التونسية في النظام السياسي البرلماني المعدل، أن الأحزاب السياسية، غير الممثلة في البرلمان، لا مكان لها في المشهد السياسي الحالي. غير أن الخشية من انعكاس غيابها خلال خمسة أعوام كاملة (مدة ولاية المجلس النيابي)، ما قد يتسبب في اندثارها مستقبلاً". وأضاف "هذه الحقبة شهدت أيضاً تراجعاً لدور الأحزاب لفائدة الكتل البرلمانية، التي أصبحت تُدير العملية السياسية في قصر البرلمان بباردو، فسحبت معها مشاكلها الحزبية وخلافاتها الأيديولوجية إلى الساحة البرلمانية"، مشيراً إلى أن "وجود زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي على رأس البرلمان دفع إلى تحويل كامل العملية السياسية إلى باردو، بصراعاتها ومفاوضاتها، فلم تعد الأحزاب بالمعنى الكلاسيكي فاعلة ومؤثرة بقدر حركية الكتل وديناميكيتها". واعتبر أن "الحكم انتقل إلى قصر باردو، بعد أن كانت القرارات تدار في مقر النهضة بمونبليزير أو في مقر النداء سابقاً في ضفاف البحيرة، ما يعكس تراجع تأثير الأحزاب عامة، فما بالنا بالأحزاب المعارضة التي لا تمثيل لها".
واعتبر المؤدب أن "ضعف تأثير الأحزاب في الرأي العام مرده إلى ضعف أدائها، وسقوطها في مربع الصراعات الممجوجة التي سئمها المواطنون. أضف إلى ذلك حملة ترذيل الأحزاب الممنهجة التي رعاها الرئيس التونسي قيس سعيد وغذاها منذ الانتخابات وبعدها، الأمر الذي أثر في عموم التونسيين". وأشار إلى أن "أحزاب اليسار والأحزاب الاجتماعية والتقدمية وجدت نفسها خارج الحسابات، بسبب سوء تعاطيها مع أنصارها وقواعدها، قبل الحديث عن الناخبين"، موضحاً أن "صعود الأحزاب اليمينية عموماً، سواء من الإسلاميين أو من فلول المنظومة القديمة، يبين عدم ثقة المواطن في البدائل المقدمة من هذه الأحزاب". ولفت المؤدب إلى أن "تصاعد وتيرة الأحداث البرلمانية والسياسية، خصوصاً مع تواتر احتجاج الحزب الدستوري الحر الذي لا يستكين يوماً دون إثارة قضية أو ملف في البرلمان سحب الاهتمام والأنظار عن بقية الكيانات السياسية خارج البرلمان".
الجماهير فقدت ثقتها في جميع الأحزاب، خصوصاً تلك التي وصلت إلى البرلمان
وقال النائب عن حركة الشعب عبد الرزاق عويدات، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "الحديث عن المعارضة يقتضي تصوراً معيناً للحكم، وآخر للمعارضة. لكن الإشكال في تونس أن الوضع معقد، فالطرف الذي من المفروض أنه في الحكومة لديه شق من المعارضة في البرلمان، ومثال ذلك النهضة، التي تعتبر طرفاً حكومياً موقعاً على وثيقة التعاقد الحكومي، ومعنية بتنفيذ مشروع الحكومة، لكنْ لديها حلف برلماني مع ائتلاف الكرامة وقلب تونس، وهما في المعارضة، وفِي نفس الوقت تدفع حركة النهضة ليكونا في الحكم، وبالتالي غاب دور المعارضة. ما يحصل هو فقط من أجل لي ذراع بقية الأطراف في الحكومة، وبالتالي لا يمكن الحديث عن معارضة بالمعنى التقليدي".
وأوضح أن "أحزاب المعارضة غير الممثلة في البرلمان تراجعت ويكاد يضمحل دورها السياسي، وهذا من بين الأخطاء، لأن عدم الوصول إلى البرلمان لا يعني الاختفاء من المشهد. المفروض أن يتواصل دورها في المعارضة، وفي تأطير الاحتجاجات والشارع ولعب دورها في الحياة السياسية". وبين أن "الجماهير الشعبية فقدت ثقتها في جميع الأحزاب، خصوصاً تلك التي وصلت إلى البرلمان. فالجبهة الشعبية عندما وصلت للبرلمان لم تقم بدور المعارضة الحقيقية، بل برزت كمناهض لحزب سياسي، هو النهضة، ونقدها المستمر والاعتراض على قراراتها وتصوراتها للحكم، بينما كان مطلوباً من المعارضة، بالإضافة إلى ذلك، الكشف عن برنامج، لكنها لم تطرح البديل، ولم يكن لها حظوة عند فشل من يحكمون". وأضاف أن "الأصوات لصالح النهضة تراجعت في الانتخابات، لكن معارضيها لم يستفيدوا من تلك الأصوات ولم يستقطبوا الناخبين، ولَم يُحسنوا ممارسة دورهم كمعارضة، ما جعلهم يندثرون من الحياة السياسية والبرلمان".
وفيما اختفت أحزاب معارضة مهمة من معرض الأحداث في الأشهر الأخيرة، باستثناء بعض البيانات أو الحوارات التلفزيونية والإذاعية، سيطر الحزب الدستوري الحر على كامل المشهد، وأصبح تقريباً الحزب الوحيد المعارض، بينما يتخذ من استراتيجية معاداة "النهضة" خياراً له، وهو ما أثبتت التجارب السابقة فشله، وخصوصاً تجربة الجبهة الشعبية اليسارية. وفي هذا الخصوص، أكد عويدات أن "الدستوري الحر ظاهرة ستزول ولن تدوم، لأن صعوده هو نفس المسار الذي اتبعته الجبهة الشعبية سابقاً، يعني الاعتراض على النهضة واتهامها. يضاف إليه أسلوب البلطجة والاعتداء على اللوائح والقوانين والأحكام الدستورية. فَلَو فرضنا صعود الدستوري الحر، فبمَ سيحكم؟ بتعطيل المرفق العام؟ وحتى لو فرضنا سقوط النهضة وإبعاد الغنوشي من البرلمان، ففي هذه الحالة سيزول مباشرة حزب عبير موسي من المشهد، وهو ما جعل حركة الشعب تنتقد الحزبين. فلا لتعطيل دواليب الدولة ومنع سير الجلسات، ولا لسوء إدارة النهضة للبرلمان، والمطلوب الالتزام بالقانون".
ورأى المدير العام لمؤسسة "أمرود كونسلتينغ" المتخصصة في سبر الآراء نبيل بالعم، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن المعارضة غائبة عن المشهد السياسي، مقابل بروز الحزب الدستوري الحر الذي بدأ يحصل على مخزون عديد الأحزاب، وهو بصدد الاستحواذ على مخزون العازفين وممن عندهم ضبابية في الرؤيا، مشيراً إلى أنهم لاحظوا في نتائج سبر الآراء، خصوصاً لشهر سبتمبر/أيلول الماضي، بروز ما يسمى الاستقطاب الثنائي، أي بين النهضة والدستوري الحر. وأوضح أن "هذا الأمر أفرز شقاً مسانداً للنهضة وآخر مساندا للدستوري الحر".
وأشار المحلل السياسي ماجد البرهومي إلى أن "صعود الحزب الدستوري الحر، برئاسة عبير موسي، وكسبه لشعبية، يعود إلى استفادته من التيارات الدستورية التي لم تجد من يجمعها في ظل الشتات الذي تعانيه، ومن التجمعيين وميلهم للطرف المتصدي للنهضة. كما حصل على رصيد، حتى من عائلات يسارية متعاطفة مع موسي، شعارهم: لننتصر في المعركة ضد النهضة ثم نصفّ بقية الحسابات". وأكد أن "الدساترة والتجمعيين في الظرف الحالي ليسوا ذاتهم الذين حكموا في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، فحالياً كل طرف يحاول الصعود على موجة الديمقراطية واللحاق بها"، مشيراً إلى أن "موسي بصدد افتكاك الخزان الانتخابي للدساترة ومن اليسار المعادي للنهضة".