11 أكتوبر 2024
أيّ سبيل للحوار والتفاوض في الجزائر؟
من الصّعوبة بمكان تصديق أنّ الحراك في الجزائر بلغ شهره الخامس مصادفة، بدون موعد مسبق، مع ذكرى استعادة الاستقلال السابعة والخمسين، في جوّ مفعمٍ برمزيات التّضحيات، الوحدة ومليونيات خرجت للتعبير عن الفرحة، الأمل والقبول بالمصير المشترك، مع إحاطته بما يلزم من ضرورياتٍ أضحت لتعامل المتحضرين من أبناء هذا العالم، وخدمة للصّالح العام، أياً كانت تسميته ديمقراطية، رشادة أو حكماً جيداً. المهم هو الخروج، معاً، جميعاً، من دائرة الاستبداد، لبناء الغد المنشود لبلدٍ بحجم قارة، وبمقدراتٍ لا حصر لها، يمكنها أن تكون قاعدةً لمشروع انطلاقة وإقلاع جديدين، مع وجهةٍ إلى محطة واحدة: الجمهورية الثانية وميلاد المشروع الذي ننتظره جميعاً، ونرتضيه لوطننا.
لم يكن لرمزية هذه الذّكرى أن تمرّ في الجزائر، من دون أن تترك لنا شيئاً من فيحها. وكانت هذا المرّة دعوة الحوار التي أطلقها الرئيس المؤقت، عبد القادر بن صالح، مستفيداً من كبوات الدعوتين السابقتين للحوار، ثم لرئاسيات 4 يوليو/ تموز، الموعد الذي انقضى، واللتين انتهتا إلى الفشل، بسبب عدم إحاطتهما بما يلزم من ضروريات التوافق، بعد جولات حوارٍ يسترجع الجزائريون في غضونها ذكريات الاستماع بعضهم لبعض، والتّي كانت من أدوات الجرأة، لإعلان الحرب على فرنسا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) بصفر إمكانات، تجسيداً لأكبر الأمنيات، الحصول على الانعتاق من ربقة الاستعمار الاستيطاني الفرنسي.
يجب أن يُفهم، بدايةً، أن الحوار المقترح والمحصور في الانتخابات فقط سيفتح الباب، واسعاً،
أمام نوعين من الإصلاحات للنظام، الأولى إجرائية والأخرى بضمانات فتح الورشات المستقبلية للتّفكير في ثلاثة مشاريع كبرى، هي طبيعة النظام السياسي المستقبلي، الخروج من منظومة الريع النفطي، ثم تصوّر مكانة الجزائر في الجوار (المغرب العربي بإحياء وإعادة بعث مشروع التكامل/ الاندماج)، غرب المتوسّط والمنطقة الساحلية الصّحراوية.
لمن لا يعلم سبب خروج الجزائريين إلى حراكهم في 22 فبراير/ شباط 2019، فإنّ الدافع الرئيس هو منظومة الانتخابات التي عمل النّظام السابق على تصوّرها، ثم هندستها لغلق اللعبة السياسية، وتصحير الساحة السياسية إلا من الموالاة، التحالف الرئاسي والمعارضة التي تعيش على هامش النظام، وذلك كله باستخدام آليتي التزوير والمحاصصة.
وقد تولّدت عن هذه الاستراتيجية التي دامت حوالي عقدين نخبة سياسية، في الموالاة والمعارضة، استقالت من الفعل السياسي الاحتجاجي/ المعارض لممارسات النظام، ما أوجد حياة سياسية وثقافة سياسية، كان الحاضر الأكبر فيهما العزوف عن الانتخاب من الشباب، بصفة خاصة، وغلق لأي انفتاحٍ يُمكن أن يستشفّ منه احتمال حدوث دوران/ تجديد للنخب، أو اتجاه نحو الرشادة والحكم الجيد. ولهذا فإن من فكّر تصور، ثم حاول حصر الحوار في الانتخابات الرئاسية، يكون إمّا صادقاً، لعلمه أن هذه الحصرية مدعاة لتغيير شامل أو ظن بأن هذه الحصرية ستحول دون التوسّع في المطالب، بل وتحتوي التغيير القادم دونما فتح لورشات إصلاحية عميقة للنظام وللاقتصاد.
ننتهي، في هذا المقام، إلى أنّ المحاورين للنظام، في إطار تلك الحصرية، يجدون أنفسهم أمام فرصةٍ تاريخيةٍ لتصوّر منظومة انتخابات، تكون خيوطها في أيدي من يهمهم شفافية تلك الانتخابات ونزاهتها، وهم المنتخبون من الشعب، أو المشاركون في الحراك منذ بدايته. والمنطق الذي سيعمل على أساسه أولئك المحاورون، بالنتيجة، هو بالانتخابات تُعيّن من تريد، بواسطتها تُمارس الحكم، ورديف ذلك كله سن القوانين والسياسات من خلال برلمان ضعيف الصلاحيات وتم انتخاب/ اختيار نوّابه من خلال الأداتين اللّتين ذكرناهما سابقاً. ولهذا، فإنّ تلك الحصرية هي باب للولوج إلى إصلاحات عميقة، على المستوى الإجرائي، إضافة إلى أنها
ستمنح الرئيس القادم، على المستوى العملي السياسي الاستراتيجي، من منطلق شرعيته الحقيقية، بعد أن يكون قد مرّ إلى قصر الرئاسة، عبر صناديق شفافة، سيتمكّن من فتح الورشات المرغوبة، بل وسيكون المبادر بها، والمنافح عنها.
وقد يسأل سائل: كيف يمكن للنّظام الحاكم أن يعد بتلك الانتخابات، ويجعلها خياره الوحيد الممكن والمتاح، دستورياً، وفق رؤيته للخروج من الانسداد، وهو يعلم، تمام العلم، أنّ منظومة الانتخابات هي الدافع إلى الحراك في فبراير/ شباط الماضي؟ تكون الإجابة، هنا، ومن منطلق المؤشّرات السابقة، أن النظام يكون قد فسّر/ عملياً، مفهوم المرافقة للحراك، بل ويكون قد منح لنفسه فرصة التّوافق على المرحلة المقبلة مع الطبقة السياسية، الشخصيات الوطنية، المجتمع المدني والحراك، باعتبار أن ما يجري مفصلي لمستقبل البلاد، وهي سنّة البلدان التي تلتقي، مصادفةً أو تخطيطاً، مع رغبة للتغير بما يكفل الخروج من دائرة الفشل، والإقلاع نحو منظومة المستقبل الحاملة للنّجاعة، الرّشادة والحكم الجيد.
التئام اجتماع المشاركين في منتدى الحوار الوطني، أول من أمس، (6 يوليو/ تموز) في العاصمة الجزائرية دليل على أن الصالح العام هو الباعث على التوجه نحو التوافق، باعتبار أن ثلاثة أرباع أي حوار/ تفاوض إنّما يجرى في الكواليس، وهو ما يعني أنّ خطاب الرئيس المؤقّت يكون قد لمس توافقاً على رئاسياتٍ، من دون تحديد تاريخ إجرائها، نظيفة وشفافة من خلال صلاحيات واسعة، تكون مرفوقة بحكومة كفاءات وسلطة عليا للإشراف، التنظيم
والمراقبة للاقتراع الرئاسي من بدايته إلى منتهاه، وبمشاركة تصاعدية من أصغر قرية، وصولاً إلى الممثلين أصحاب التمثيلية الأوسع ضماناً لمسار انتخابيٍّ لا تشوبه شائبة.
لا يمكن أن تنتهي هذه المقالة من دون الإشارة إلى أمرين مهمين، وردا في خطاب الرئيس المؤقت، ويتعلق أولهما بإقرار عدم مشاركة الرئاسة المؤقتة والجيش في الحوار، وهو ما يعمق من معنى المرافقة التي أكّد عليها، مراراً وتكراراً، قائد الأركان، أحمد قايد صالح، في حين أن الأمر الثاني متّصلٌ بكلمة "مراعاة" التي وصف بها الرئيس المؤقّت مآل الاقتراحات، اللائّحة أو العرض الذي ستنتهي إليه أعمال منتدى الحوار الوطني، وهي كلمة حمّالة أوجه، لعلّ أدناها الاستماع، وأعلاها ينتهي عند سقف التجسيد الفعلي، إضافة إلى أن الكلمة تحمل توجيهاً نحو الاعتدال في المطالبات، وعدم رفع السقف عالياً، لتكون المحصلة أننا أمام حوار/ تفاوض بآليات التسويات والتنازلات، وهي كلماتٌ وردت على لسان قائد الأركان في إحدى خطبه السابقة.
إذا كان هذا هو الفهم الحقيقي لخطاب الرئيس المؤقت، وعرضه الذي دعا، من خلاله، إلى الحوار، فإن الوصف الذي يليق به هو "الخيار الاستراتيجي"، لأنه سيكون بمسارين، أولهما إجرائي/ قانوني/ دستوري، ينتهي إلى إجراء انتخابات رئاسية في أقرب "الآجال الممكنة"، بما يكفل النظافة والشفافية لذلك الاقتراع الحيوي. وثاني المسارات يتصل بفتح الورشات الإصلاحية لجزائر الغد، والتي ستمسّ، كما سبقت الإشارة أعلاه، طبيعة النظام السياسي المستقبلي، الخروج من منظومة الريع النفطي، ثم تصوّر مكانة الجزائر في الجوار (المغرب العربي بإحياء وإعادة بعث مشروع التكامل/ الاندماج)، غرب المتوسّط والمنطقة الساحلية الصّحراوية.
هذا هو باب التوافق، ودونه الخلافات التي لم تكن، في أي يوم، خيراً علينا. لنذهب إلى تلك الانتخابات، ولنعمل على إحاطتها بما يجعلها في مستوى السلمية التي اتّسمت بها تظاهرات الأشهر الخمسة الماضية. ليكن، دلالةً على حسن النية، من أولى إجراءات الحوار الحقيقي رفع التضييق الذي اتّسم به الحراك في أسابيعه الأخيرة، وإطلاق سراح حاملي الراية الأمازيغية والمجاهد لخضر بورقعة. إنّها بوادر من رمزية الخامس من تموز/ يوليو، يوم غنى الراحل، عميد الأغنية الشعبية الجزائرية، العنقى، أغنيته "الحمد لله ما بقى استعمار في بلادنا".. ويا لها من بلاد، ويا لها من رمزية.
يجب أن يُفهم، بدايةً، أن الحوار المقترح والمحصور في الانتخابات فقط سيفتح الباب، واسعاً،
لمن لا يعلم سبب خروج الجزائريين إلى حراكهم في 22 فبراير/ شباط 2019، فإنّ الدافع الرئيس هو منظومة الانتخابات التي عمل النّظام السابق على تصوّرها، ثم هندستها لغلق اللعبة السياسية، وتصحير الساحة السياسية إلا من الموالاة، التحالف الرئاسي والمعارضة التي تعيش على هامش النظام، وذلك كله باستخدام آليتي التزوير والمحاصصة.
وقد تولّدت عن هذه الاستراتيجية التي دامت حوالي عقدين نخبة سياسية، في الموالاة والمعارضة، استقالت من الفعل السياسي الاحتجاجي/ المعارض لممارسات النظام، ما أوجد حياة سياسية وثقافة سياسية، كان الحاضر الأكبر فيهما العزوف عن الانتخاب من الشباب، بصفة خاصة، وغلق لأي انفتاحٍ يُمكن أن يستشفّ منه احتمال حدوث دوران/ تجديد للنخب، أو اتجاه نحو الرشادة والحكم الجيد. ولهذا فإن من فكّر تصور، ثم حاول حصر الحوار في الانتخابات الرئاسية، يكون إمّا صادقاً، لعلمه أن هذه الحصرية مدعاة لتغيير شامل أو ظن بأن هذه الحصرية ستحول دون التوسّع في المطالب، بل وتحتوي التغيير القادم دونما فتح لورشات إصلاحية عميقة للنظام وللاقتصاد.
ننتهي، في هذا المقام، إلى أنّ المحاورين للنظام، في إطار تلك الحصرية، يجدون أنفسهم أمام فرصةٍ تاريخيةٍ لتصوّر منظومة انتخابات، تكون خيوطها في أيدي من يهمهم شفافية تلك الانتخابات ونزاهتها، وهم المنتخبون من الشعب، أو المشاركون في الحراك منذ بدايته. والمنطق الذي سيعمل على أساسه أولئك المحاورون، بالنتيجة، هو بالانتخابات تُعيّن من تريد، بواسطتها تُمارس الحكم، ورديف ذلك كله سن القوانين والسياسات من خلال برلمان ضعيف الصلاحيات وتم انتخاب/ اختيار نوّابه من خلال الأداتين اللّتين ذكرناهما سابقاً. ولهذا، فإنّ تلك الحصرية هي باب للولوج إلى إصلاحات عميقة، على المستوى الإجرائي، إضافة إلى أنها
وقد يسأل سائل: كيف يمكن للنّظام الحاكم أن يعد بتلك الانتخابات، ويجعلها خياره الوحيد الممكن والمتاح، دستورياً، وفق رؤيته للخروج من الانسداد، وهو يعلم، تمام العلم، أنّ منظومة الانتخابات هي الدافع إلى الحراك في فبراير/ شباط الماضي؟ تكون الإجابة، هنا، ومن منطلق المؤشّرات السابقة، أن النظام يكون قد فسّر/ عملياً، مفهوم المرافقة للحراك، بل ويكون قد منح لنفسه فرصة التّوافق على المرحلة المقبلة مع الطبقة السياسية، الشخصيات الوطنية، المجتمع المدني والحراك، باعتبار أن ما يجري مفصلي لمستقبل البلاد، وهي سنّة البلدان التي تلتقي، مصادفةً أو تخطيطاً، مع رغبة للتغير بما يكفل الخروج من دائرة الفشل، والإقلاع نحو منظومة المستقبل الحاملة للنّجاعة، الرّشادة والحكم الجيد.
التئام اجتماع المشاركين في منتدى الحوار الوطني، أول من أمس، (6 يوليو/ تموز) في العاصمة الجزائرية دليل على أن الصالح العام هو الباعث على التوجه نحو التوافق، باعتبار أن ثلاثة أرباع أي حوار/ تفاوض إنّما يجرى في الكواليس، وهو ما يعني أنّ خطاب الرئيس المؤقّت يكون قد لمس توافقاً على رئاسياتٍ، من دون تحديد تاريخ إجرائها، نظيفة وشفافة من خلال صلاحيات واسعة، تكون مرفوقة بحكومة كفاءات وسلطة عليا للإشراف، التنظيم
لا يمكن أن تنتهي هذه المقالة من دون الإشارة إلى أمرين مهمين، وردا في خطاب الرئيس المؤقت، ويتعلق أولهما بإقرار عدم مشاركة الرئاسة المؤقتة والجيش في الحوار، وهو ما يعمق من معنى المرافقة التي أكّد عليها، مراراً وتكراراً، قائد الأركان، أحمد قايد صالح، في حين أن الأمر الثاني متّصلٌ بكلمة "مراعاة" التي وصف بها الرئيس المؤقّت مآل الاقتراحات، اللائّحة أو العرض الذي ستنتهي إليه أعمال منتدى الحوار الوطني، وهي كلمة حمّالة أوجه، لعلّ أدناها الاستماع، وأعلاها ينتهي عند سقف التجسيد الفعلي، إضافة إلى أن الكلمة تحمل توجيهاً نحو الاعتدال في المطالبات، وعدم رفع السقف عالياً، لتكون المحصلة أننا أمام حوار/ تفاوض بآليات التسويات والتنازلات، وهي كلماتٌ وردت على لسان قائد الأركان في إحدى خطبه السابقة.
إذا كان هذا هو الفهم الحقيقي لخطاب الرئيس المؤقت، وعرضه الذي دعا، من خلاله، إلى الحوار، فإن الوصف الذي يليق به هو "الخيار الاستراتيجي"، لأنه سيكون بمسارين، أولهما إجرائي/ قانوني/ دستوري، ينتهي إلى إجراء انتخابات رئاسية في أقرب "الآجال الممكنة"، بما يكفل النظافة والشفافية لذلك الاقتراع الحيوي. وثاني المسارات يتصل بفتح الورشات الإصلاحية لجزائر الغد، والتي ستمسّ، كما سبقت الإشارة أعلاه، طبيعة النظام السياسي المستقبلي، الخروج من منظومة الريع النفطي، ثم تصوّر مكانة الجزائر في الجوار (المغرب العربي بإحياء وإعادة بعث مشروع التكامل/ الاندماج)، غرب المتوسّط والمنطقة الساحلية الصّحراوية.
هذا هو باب التوافق، ودونه الخلافات التي لم تكن، في أي يوم، خيراً علينا. لنذهب إلى تلك الانتخابات، ولنعمل على إحاطتها بما يجعلها في مستوى السلمية التي اتّسمت بها تظاهرات الأشهر الخمسة الماضية. ليكن، دلالةً على حسن النية، من أولى إجراءات الحوار الحقيقي رفع التضييق الذي اتّسم به الحراك في أسابيعه الأخيرة، وإطلاق سراح حاملي الراية الأمازيغية والمجاهد لخضر بورقعة. إنّها بوادر من رمزية الخامس من تموز/ يوليو، يوم غنى الراحل، عميد الأغنية الشعبية الجزائرية، العنقى، أغنيته "الحمد لله ما بقى استعمار في بلادنا".. ويا لها من بلاد، ويا لها من رمزية.