إحالات الصورة والحذاء

21 مايو 2015
+ الخط -
كنتُ قررت في مخططي المبيت له هنا، أن أقوم بترتيب (العلامات) بوصفها مستهجنة فلسفياً، وتكرس التشيؤ فيما لو كان المجتمع الذي أتحدثُ عنه صناعياً، ويسعىَ إلى أن يصلَّ ذروة نهايته باكتمال أيديولوجيته، مقاربة جاء بها بوديار في نقده الدائم للمجتمع الغربي، وربما سأفعلُ على نحو ما، ما يخلصني من الرصانة التي يقتضيها عنوان كالذي أردته عتبة نصية لموضوعي (إحالات الصورة والحذاء). إذ من الممكن في حال عدم الفصل بين الدال والمدلول، والتنعم بالفضاء السيميائي للحدث، أي حدث، الذهاب إلى الصورةِ، متحركة كانت أو متوقفة من حركة ماضية، وهي هنا خاصة تلك المتحركة ستكونُ(الكريستال) اللفظة الأكثر بهرجة واحتفالية وتعادل التخيلَّ مفهوماً، وهنا يمكن أن ننظر في دأبِ جيل دولوز بالانتصار للصورة، وعدّها فتحاً حميداً، لا يقلُّ عن فتوحات الفسلفة في النفس البشرية، حتى إن لم تكن -أي الصورة- حقيقة نفسية داخل الشعور، يقول أرسطو:" إنَّ التفكير مستحيل دون صور".
وإذا كانت الصورة التي تقدمُ إلينا على طبقٍ من الدهشة والمجازفة، تريد خلقَ واقعٍ آخر، هو في جوانيته بديل عن الحقيقي، فما الممكن قوله عنها:" كاذبة" أم صادقة؟، أم أمكننا عدَّها كأهداف فضفاضة عائمة وغائمة، ولا يمكنُ النظر إليها إجرائيا إلا بحدود دنيا، والتعامل معها كقطع أدبية أو مناطق ترتبط بالذكاء من عدمه، وبالتالي لا روائز ولا قياس. يقول بوديار أيضاً: "إن الصورة هي قاتلة للواقع" وثمة فرق جوهري بين القتل والتفكير الذي يستحيل دون صور.

منهجياً يمكن لي أن أتتبعَ (التحول السوري الكبير)، من أناس، تخشى التحدث عن السلطة مع الحائط أو العراء على رحابة صدره، إلى الساحات والشوارع وعلنا، وبشعارات واضحة، تميل كليةَ إلى نبذِ السلطة من جذرها، والمطالبة بنظام إنساني عادل، يضعُ على عاتقه همَ الإنسان ورفاهيته وكرامته وحرية تعبيره من أقرب الأولويات إلى عملهِ، غيرَ أن التحول(الثورة) يتنقلُّ من الشارعِ إلى الخندقِ أو الحفرة أو التلطي خلف السواتر، ضمنَ لاتكافؤ في الآلات وأماكنِ الاحتماء، وإن كانت الصورة المبثوثة من قناةِ السلطةِ الحاكمةِ غبيةً، ولا تنفكُّ العملَ بتقانات جيدة ولكن بالتبييتِ المتعمّد نحو التجهيل والنظر كما في السابق إلى مجموع البشر، موضوع التلقي، على أنهم (بهائم وبكم)، ويمكن لأي حيلة أن تنطلي عليهم، في حين وضمن التعتيم الحاصل فإن الطرف الثاني يمتلك أدوات ضعيفة ويداً مرتجفة للظرف الذي اقتنصتْ فيه الصورة، فأتت مشوشة وغائمة أيضاً، وإن حققت مرجواً، فإنَّ ذلك عائد لحمولتها الأخلاقية وصدقها لا لتقنيتها.


في صورة لعائلة تسقط على رصيف ما، تأخذ عينُ كاميرا ناشط إعلامي العائلة الضحية بحيز يأخذ ربع الصورة، بينما تذهب النسبة الكبرى إلى فردة حذاء الطفلة ذات الثمانية أعوام، ثلاثةُ وجوه ودم على الرصيف وفردة حذاء طارت إلى الشارع، كأنَ العين أردات القول، إن الطفلة كانت تريد السير أكثر، لتصلَ، لكنَّ الرصاصة أسرع، كذلكَ في الزوم يبدو الحذاء قديما ومتسخاً، الدال السيميائي هنا سيقول: هؤلاء أبناء عوز وفقر، ولم يخرجوا من وكرهم للنزهة، لتنتهي حياتهم بهذه الطريقة التراجيدية. في صورة أخرى، يتتبع هاوٍ بلهاث وخوف عملية عبور رجل مسن الشارع، بينما القناص يلبد في مكان قريب، تلك المسافة القصيرة تصبح كما لو أنها محاولة قطع المحيط سباحة، يلهث المصور ويستعجل الرجل للعبور، محدثاً نفسه ومتحرقاً في داخلها، الرصاص ينهمرُ والرجل الذي قطع نصف المسافة، يرجع ثانية، ليلتقط حذاءه الذي تنصل من قدمهِ، في تقريب الصورة، يبدو الحذاء متهرئاً ولا يستحق مجازفة العودة. في مشهدٍ آخر، يحدثني صديق فأتخيلُ بغياب الصورة الأصل:" غاصت قدمي في طمي أحد الأنهار في بلغاريا، كنت حريصاً على حذائي، أكثر من قدمي". من مجموعِ الصور، نستشفُ أن القوة الإحالية، ليست معنية بالحذاء بوصفه قريبا للأرض، وساتراً للقدم من هتكِ الدنس والقذارة، مما يحيلُ إلى المدنّس والمقدس، كمفردتين توأمين ومتضادتين.

نقيضُ المقدّس لو قلنا عن حذاء الطفلة والرجل المسن واللاجئ إلى أوروبا، نجد المدنّس رفعَ الحذاء بموازاة الرأس، تحديداً الفم، بوجود طاقة الرأس الدلالية والإشارية إلى الرفعة ومركزية القيم، وعلى ذلك عندما يفرش عسكري صورة(الرئيس) ليركعَ المعتقل والخائف مقبلاً الصورة وقائلاً عنها:" ربي"، نجد أنَّ الفعل المحدث إكراه وليس فعلاً أصيلا، لمن قام به وربما لمن أوعزَ بتنفيذه كوضيع في السلم التراتبي للسلطات، كذلكَ المضمرَ في خطابِ (الموالي) وانحيازه للرواية الخطأ هو لا يعلن صراحة وقوفه إلى جانب الطاغية، لكن يقارن، ويسوق أدلة لا تأخذ شكل النسق على أنها البديل السيئ للسلطة التي يراها فاسدة وعنجهية، ويعتقد أنّه بضبابيته هذه، يخلّص نفسه من المترتّب الأخلاقي، في حين نجد شكلاً آخر من المسوخ، يعلنُ عبوديته بتقبيل الحذاء، غالبا بسطار عسكري جديد، والمشهد يتم في (استديو) إضاءة جيدة، اكسسورات مساعدة، وتحرير يظهر الصورة كما لو أنّها الواقع الذي لا بدَّ من خلقه، والمتابع سيجد أن البسطار حلَّ محل صورة (القائد) المقبّلة جبراً، ما يعني أن تسارعاً في الأحداث دعا إلىَ ممارسة فعلٍ يتساوقُ مع انهيار استعصى شكلاً، غير أنه في طريقهِ إلى التحقق، وما البوطُ العسكري، بحجمهِ الكبير ورمزيته المفرطة لو خصَّ جندياً شريفاً، صوبّ بندقيتهُ إلى عدو مضىَ (50) عاماً، وهو يدّعي أنه يتدّرب على قتله، وليسَ إلى صدرِ أخوته، هذا البوط في حالتهِ هذهِ يحيلُ إلى صورة رأس(الرئيس)، وهي صورة في حال من الأحوال تتشاكلُ مع صورة حيوان مفترس.

(سورية)
المساهمون