إدانات.. ولكن

09 فبراير 2015
+ الخط -

أدان العالم بأسره عمليّة القتل الوحشيّة التي تعرّض لها الطيّار الأردني، معاذ الكساسبة، على يد عصابة تنظيم الدولة الإسلاميّة، ولا شكّ في أن إدانة القتل موقفٌ يحسب لصاحبه من حيث المبدأ، فالإدانة (إن كانت صادقة) تأتي بمثابة تبرّؤٍ من فعل القتل نفسه، من الانتهاك والإجرام، ومن شريعة الغاب البشريّة، التي اتضح أنّها لا تشبه شريعة الغاب الحيوانيّة في شيء؛ فالأخيرة أكثر رحمة من الأولى، وتحكمها ضوابط صارمة! لكنّ إدانة قتل الكساسبة لم تكن كذلك، ولا أتكلّم، هنا، عن الحالة الشعبيّة العفويّة، وإنّما عن الإدانة السياسيّة للجريمة، فالسياسة (في عصرنا هذا وربّما أكثر من أي وقتٍ مضى) قادرةٌ على تلويث أيّة قيمة، وتغيير معناها، حتى وإن كنّا نتكلّم على مستوى إدانة!

بصورة عامّة، لا يوجد ما يدعونا إلى التفاؤل، فالاستخدام السياسيّ لكل حدث إنساني أصبح ظاهرةً عالميّة، وهو سياسة تحترفها غالبيّة أنظمة المنطقة، وبصفاقة مذهلة! فقد سارعت إيران إلى إدانة الجريمة البشعة، بينما طالب حزب الله بعض الدول بإعادة النظر في سياساتها التي تتمثّل في دعم الجماعات الإرهابية في سورية والعراق، والتي تعمل (بحسب زعمه) على تشويه صورة الإسلام والمسلمين! يتناسى الحزب حقيقةً لم ينكرها هو نفسه، وتقول إنّ دخول الحزب إلى سورية سبق ظهور داعش على الساحة السوريّة بفترةٍ، تكفي لظهور أكثر من تنظيم استئصالي، في رد فعلٍ على ممارسات حزب الله الطائفيّة في سورية، أو نتيجة نهائيّة للصراع الطائفي الذي يفاقمه تدخّل أية ميليشيا شيعيّة في الحالة السوريّة.. فلقد كان أوّل تشييعٍ لقتلى حزب الله في سورية في  29 أغسطس/آب 2011، وحينها لم يصرّح الحزب بأكثر من عبارة (أنّه استشهد أثناء تأدية واجبه الجهاديّ)! وتوالت النعوش، إلى أن اضطرّ الحزب إلى إعلان الحرب المفتوحة، متخلّياً عن التقيّة السياسيّة والدينيّة مع بداية المعركة ضد الثوّار والمدنيّين في مدينة القصير في مايو/أيار 2013. يحتاج الحزب إلى من يذكّره بأنّه متّهم، وبحسب تقرير صادر عن لجنة التحقيق الدولية، بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سورية، كاستخدام صواريخ محمولة شديدة التفجير تؤدي إلى خسائر بشرية كبيرة، وتحدث دماراً هائلاً في المباني. وقد قام (بحسب مركز توثيق الانتهاكات في سورية) بحالات إعدام ميداني كثيرة في مدينة القصير والنبك، مع حصاره مدن جنوب العاصمة وبلداتها، وأبرزها بيت سحم وببّيلا، حين كان الحزب فاعلاً أساسيّاً في الحصار والمعارك إلى جانب عناصر النظام.

أكثر ما يثير السخرية  أن تسارع خارجيّة النظام السوري إلى إصدار بيانٍ يشجبُ الجريمة الإرهابيّة، مستخدماً بشاعة الجريمة لإعادة تذكير العالم (وبشماتة واضحة) بالرواية المشهورة التي لم يتوقّف النظام السوري عن ترويجها منذ بداية الثورة؛ والتي يقول فيها إنّه يواجه، منذ اليوم الأوّل، مجموعة من الإرهابيّين والتكفيريّين، وإنّ الثورة لم يكن لها وجود إلّا في استوديوهات الجزيرة! وبذلك، ينبّه النظام دول العالم إلى أنّ التحريق الذي حصل هو نتيجة طبيعيّة لوقوفهم ضدّه في حربه، التي يخوضها بالنيابة عنهم!

كان من الممكن تناول البيان الصادر عن خارجيّة النظام بالسخرية، فيما لو كان الواقع الإقليمي والعالمي يُعاكس مصالح النظام. لكن الوضع مختلف تماماً، فالحقيقة أن النظام هو الذي يسخر منّا جميعاً، ويحقّ له ذلك بطبيعة الحال، فالعالم لم يأخذ، حتّى اليوم، الجرائم التي قام بها على محمل الجد، بعد أربع سنوات من القتل المتواصل؛ بينما استطاعت حادثة واحدة أن تجمع العالم بأسره على كلمة واحدة، ولا جدال في أنّها تستحق ذلك، وهذا سيدفعنا إلى تناول بيانات الإدانة نفسها بالسخرية، ليس لأن الإدانة، بحدّ ذاتها، موقفٌ خاطئ، وإنّما لأنّ الإدانة المُسيّسة تحاول أن تتستّر على جريمةٍ ما.
لا ينطبق هذا الكلام على حزب الله وإيران والنظام السوريّ فقط، فهذه الأطراف لن تستطيع الهرب من محاكمة التاريخ، وإن أفلتت من محكمة الواقع، وإنما المقصود كلّ من ساهم في إعطاء الغطاء اللازم، ولو بترويج فكرة العجز عن فعل شيءٍ ما، أمام الجرائم المثبتة، وأوضحها جريمة تحريق الناس والبلد، عملاً بمقولة "الأسد أو نُحرق البلد"..

لا شكّ في أنّ الجريمة كانت بشعةً، إلى درجة لا يمكن التعبير عنها بالكلمات. لكن، وفي المقابل، نحن أمام محرقةٍ لم تتوقّف منذ سنوات، ألقيت فيها بلدٌ بأكملها، وهناك أطراف معروفةٌ تتولّى عملية الحرق، بينما يصب كثيرون الزيت على النار.

avata
avata
عماد العبار (سورية)
عماد العبار (سورية)