سعى الغرب النقدي، في حالته الفرنسية، على أيدي مفكريه الكبار، من أمثال جيل دولوز وميشيل فوكو ورولان بارت وغيرهم، إلى تفكيك عقل المؤسسة الغربية، ونقدها، فهذا العقل يتحكّم في السياسة وفي الاقتصاد، كما في العقيدة العسكرية.
والواقع، أن ما يحدث، اليوم، في فرنسا من احتقان اجتماعي وفي بلدان أوروبية أخرى، هو نتيجة ضمنية، لفشل هؤلاء في تدبير عقلاني مع "مستعمراتهم " القديمة واستمرار عقلية الوصاية، حتّى بعد حصول تلك الدول على استقلالاتها، إذ ما لبث أن جرى ضمان تبعيتها لـ "السيد"، بعد أن جرى إحلال هذه الجيوش من العمال، لتشبيب شيخوخة "السيدة العجوز".
هذه الإشكاليات هي ما يوضّحها المفكر الفرنسي، إدغار موران، في كتابه "إلى أين يسير العالم"، عندما يقول بالحرف الواحد إن "رحى المعركة، اليوم، تدور على صعيد الفكر"، وهو بهذا المعنى يشير إلى أن حروب عالم اليوم لم تعد تخاض بالجيوش الجرّارة، ولكنها حروب عقائد وأفكار، ومن يكسب معركة الفكر يكسب ما عداها.
فحين يستيقظ المجتمع الفرنسي على تعبيرات جديدة عن الهوّية، فإن ذلك لا يشكّل صدمة فقط لمروجي خطابات المجتمع الواحد، ولكن هذه التعبيرات الإثنية أو الدينية هي خلاصة مسار طويل من الإقصاء الصامت، ومن أزمات النظام الليبرالي نفسه، القائم على آلة الإنتاج الضخمة التي لا تعير انتباهاً للأفراد ولا للمجموعات الصغيرة المشدودة إلى ثقافة الجذور، وإلى هوّياتها التي هي الدواء السليم لأعطابها، حتى لا تتحوّل إلى ترس ضار في ماكينة الانسجام الاجتماعي.
يشير إدغار موران إلى أن الحاضر يشيد انطلاقاً من الماضي، وكلّ ما زرعته في الماضي يثمر في الحاضر، ولذلك فهو يسخر من تنبؤات علماء المستقبليات الذين كانوا يعتقدون أن كلّ شيء ثابت وغير متحرّك، وما دام الحاضر ثابتاً فالمستقبل مضمون، من دون أن يكلّفوا أنفسهم إلقاء نظرة على الماضي، وكيف كان.
وهو من هذا المنطلق، يعتبر أن مشكلات أوروبا وأزماتها، تبدأ من ماضيها المركّب، فمنذ الحربين العالميتين الأولى والثانية تغيّر وجه الغرب، يقول موران: عندما نكتشف ثغرة في الماضي فإننا نكتشف أيضاً ثغرة في الحاضر، وإن الوهم الأكبر هو الاعتقاد بأننا نملك معرفة عن الحاضر لأننا موجودون فيه، ويخلص إلى أنه ليس هناك من صعوبة أكثر من استخلاص معالم الحاضر.
وعلى ضوء ذلك، يولد المستقبل الذي سيتحوّل بدوره إلى حاضر، لينزاح الفاعلون الرئيسون فيه إلى الدرجة الثانية، ويخرج فاعلون آخرون من الظلّ كي يؤدّوا دورهم في لعبة الزمن.
ولعل موران محقّ حينما يقول إن "حركة الصيرورة مركّبة بشكل هائل. فالتاريخ يبدع وينحني ويتمايل، وهو يغير السكّة ويضلّ السبيل، والاتجاه المضاد الذي أثاره تيار يختلط بالتيار. وبتغيير اتجاه هذا الأخير يصبح هو التيار. والتطوّر انسياق وانحراف وخلق وهو قطائع واضطراب وأزمات".
بهذا يفهم إدغار موران حركة التاريخ، وهو يأسف لأن الحضارة الغربية لم تلتفت إلى هذا المنحى، وبقيت محكومة بنزعتها المركزية التي جعلتها لا تنظر بكثير من الرويّة إلى ما يشكل هوّيتها المتجددة، وغنى هذه الهوّية.
ولو تتبعنا وجهة نظر موران لقلنا، إن العرب والمسلمين، هم اليوم، واقع قائم في أوروبا، وإن هذه الملايين التي تعمل وتصوم وتصلي أو لا تصلي، لا يمكن اليوم، اجتثاثها ورميها في عرض البحر ولا إعادتها في هجرة معاكسة إلى أوطانها الأم، فهي لم يعد لها من وطن إلا الذي تحيا وتعيش فيه.
يحذر إدغار موران من الحروب المدمرة التي تتهدّد العالم، ولذلك، يوجه نداءً في هذا الكتاب، من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه. إن تعدّد القوى العظمى، وظهور قوى وسلطة تمتلك السلاح، والسلاح النووي على وجه الخصوص، وبروز قوى صغرى، ومجموعات لها القدرة على الوصول إلى السلاح واستعماله من دون وازع أخلاقي، سيؤدّي لا محالة إلى سقوط العالم في ما يسميه "السديم".
لكن هل توجد فرصة لتفادي هذا المصير المشؤوم؟ يخلص موران إلى أن بصيص الأمل الموجود يتضاءل يوماً عن يوم، في عالم يصول فيه الشرّ على جياده الحديدية ويدمّر شهوة المادة.