28 أكتوبر 2024
إدلب.. نموذج للعلاقات الروسية التركية
يمكن وصف العلاقة بين روسيا وتركيا بأنها تحكمها الضرورات الملحّة، أو البراغماتية السياسية ـ الاقتصادية، وبأنها أكثر من تفاهم وأقل من تحالف استراتيجي.. دفع الموقع الجغرافي لكل من البلدين، في لحظات تاريخية، إلى الافتراق الحادّ، وفي لحظاتٍ أخرى إلى الاقتراب. بين الجانبين خلافات كبيرة، لكنها ليست ملحّة: خلافات حول المرور في مضيق البوسفور، التنافس على نقل بترول آسيا الوسطى وبحر قزوين، الموقف المتباين من قضية ناغورني كاراباخ، القضية القبرصية. ولكن الأزمة السورية شكلت نوعاً من المفارقة في تاريخ العلاقة بين البلدين: اختلاف استراتيجي حيال الموقف من الثورة ومن النظام ومن مستقبل سورية السياسي، غير أن هذه الخلافات الحادّة، وبفعل تعقد المشهد السوري بسبب كثرة الفاعلين الإقليميين، دفعت الطرفين إلى الاقتراب من بعضهما، وتقديم تنازلات متبادلة فرضتها مجريات الأمور. ولا تعني هذه التنازلات تقاطعاً في الرؤى الاستراتيجية، بقدر ما تعني تقاطعاً في أولوية المصالح الخاصة لكل طرف. ومن هنا، قد تتغير أولوية هذه المصالح مع مرور الوقت، وحدوث تغيرات مفاجئة في المشهد السوري.
كان قبول روسيا بدخول تركيا الأراضي السورية مشروطاً بتقديمها تنازلاتٍ مهمة في حلب أولاً، ثم في ضبط سيمفونية المعارضة المسلحة ثانياً، وفي اعتدال سياسي ثالثاً. وفي المقابل، كان التنازل التركي لروسيا مشروطاً باعتبار المناطق السورية الخاضعة لتركيا جزءاً من معادلة المصالح القومية العليا لأنقرة، وليس جزءاً من ثنائية النظام/ المعارضة. بعبارة أخرى، لا يخضع الانسحاب التركي من هذه الأراضي (منطقة درع الفرات، عفرين، إدلب) لمقتضيات الصراع السوري ـ السوري، وإنما لمقتضيات المصالح العليا لتركيا.
ضمن دائرة التقاطعات/ التخارجات التي تحكم العلاقة بين الدولتين في سورية، يمكن فهم حدود التلاقي والافتراق بينهما. وتشكل منطقة إدلب نموذجاً لطبيعة العلاقة هذه، فبموجب اتفاق
"أستانة 4" في مايو/ أيار 2017، قبلت موسكو أن تدخل منطقة إدلب ضمن اتفاق خفض التصعيد، شريطة أن تضبط أنقرة فصائل المعارضة، وتمنعها من شنّ عمليات عسكرية ضد النظام السوري. قبلت أنقرة بذلك، من أجل الحفاظ على هذه المنطقة بعيداً عن الصراع، مقابل انخراطها في مسار أستانة الذي بدأ يأخذ منحىً سياسياً إلى جانب منحاه العسكري. ولكن بعيد استعادة النظام السوري مناطق خفض التصعيد الثلاث (الغوطة الشرقية، درعا/ القنيطرة، ريف حمص الشمالي)، بدا واضحاً أن مضامين اتفاق "أستانة 4" لم تعد كافية، وعليه جرى اتفاق بين العاصمتين في سوتشي (سبتمبر/ أيلول 2018) على شروط جديدة، تضمنت إنشاء منطقة عازلة بعمق 15/ 20 كلم في محيط منطقة إدلب، ثم انسحاب الفصائل المسلحة، بما فيها المنظمات المدرجة ضمن لائحة الإرهاب الأممية إلى خارج المنطقة، ثم فصل فصائل المعارضة عن المنظمات الإرهابية، وأخيراً فتح الطريقين الدوليين M4 / M5.
المشكلة بالنسبة لتركيا تكمن في فصل المعارضة عن هيئة تحرير الشام وسواها، فمثل هذا الفصل سيكلف تركيا وفصائل المعارضة كثيراً، فضلاً عن أن أنقرة لا ترغب بهذا الفصل، إذ تريد أن تبقي هيئة تحرير الشام إلى جانب فصائل المعارضة، على أن تقوم الهيئة تدريجياً بتغيير سلوكها ومعتقداتها. ونجحت تركيا عملياً في ذلك، إذ استطاعت إقناع الهيئة قبل سنوات بعدم القيام بأي عمليات إرهابية، ولا القيام بعمليات إعدام كما فعل "داعش" وحتى "جيش الإسلام" في الغوطة. وفعلاً تمت معاملة "هيئة تحرير الشام" بصورة استثنائية من روسيا، بناءً على طلب تركيا، وليس مصادفة أن تصبر روسيا نحو تسعة شهور على عدم تطبيق اتفاق سوتشي، لأنها تعلم أن ملف "تحرير الشام" خط أحمر بالنسة لأنقرة، ليس لأسباب أيديولوجية، وإنما لأسباب استراتيجية.
ما الذي حدث، حتى تتغير الأمور وتسمح روسيا للنظام بشنّ عملية عسكرية في إدلب، قبل أن تشارك هي نفسها في المعارك علناً؟ لا يتعلق الأمر بإدلب منطقة جغرافية بحدّ ذاتها، بقدر ما يتعلق باختلاف بعض الرؤى بين الجانبين في ملفات (الطريقين الدوليين في إدلب، شرق الفرات، اللجنة الدستورية).
لا تبدو روسيا مهتمة بمصير هيئة تحرير الشام في هذه المرحلة، ولا بالسيطرة التركية على
وسط إدلب وشماليّها، لكنها مهتمة بالسيطرة على ريف حماة الشمالي، فقد آن أوان إخراج هذه المحافظة من جدلية الصراع، في وقتٍ تعمل مع النظام للوصول إلى الطريقين الدوليين M4 وM5. ومن هنا تأخذ المعارك على جبهة اللاذقية أهمية كبيرة، حيث يسعى النظام بدعم روسي للوصول إلى جسر الشغور، ومن ثم تحقيق اختراق في عمق المحافظة.
ليس معروفاً إلى الآن ما إذا كانت موسكو بصدد السماح للنظام بالاكتفاء بأخذ آخر نقطة في ريف اللاذقية الشمالي، أو المضيّ نحو جسر الشغور، فتصريح وزير الخارجية الروسي لافروف حمّال أوجه "الجيش التركي أنشأ نقاط مراقبة في إدلب، وكانت هناك آمال معقودة على أن وجود العسكريين الأتراك هناك سيحول دون شنّ الإرهابيين هجمات، لكن ذلك لم يحدث". هل يفهم من ذلك أن روسيا اتخذت قراراً بمحاربة ما تسميها التنظيمات الإرهابية في عمق إدلب، أم الاكتفاء بإبعادهم عن المنطقة العازلة؟
طبيعة العلاقة الروسية ـ التركية لا تسمح الآن بخيار العمل العسكري الواسع، وأغلب الظن أنه سيتم الاتفاق على ترتيباتٍ جديدة، منها فتح الطريقين الدوليين، وبقاء خان شيخون وريف حماة الشمالي تحت سيطرة النظام، في مقابل بقاء وسط إدلب وشماليه بيد المعارضة.
ما يجري اليوم في إدلب ليس خلافاً حادّاً بين موسكو وأنقرة كما يروّج بعضهم، وليس تفاهماً مضمراً كما يروج آخرون، وإنما هو تباين في الأولويات. ومن هنا، قد تجد أنقرة في سيطرة النظام على المنطقة الجنوبية من إدلب فرصة لنقل السكان النازحين إلى مناطق شرق الفرات، عقب إنشاء المنطقة الآمنة، وهنا ثمة تلاقٍ روسي ـ تركي.
ضمن دائرة التقاطعات/ التخارجات التي تحكم العلاقة بين الدولتين في سورية، يمكن فهم حدود التلاقي والافتراق بينهما. وتشكل منطقة إدلب نموذجاً لطبيعة العلاقة هذه، فبموجب اتفاق
المشكلة بالنسبة لتركيا تكمن في فصل المعارضة عن هيئة تحرير الشام وسواها، فمثل هذا الفصل سيكلف تركيا وفصائل المعارضة كثيراً، فضلاً عن أن أنقرة لا ترغب بهذا الفصل، إذ تريد أن تبقي هيئة تحرير الشام إلى جانب فصائل المعارضة، على أن تقوم الهيئة تدريجياً بتغيير سلوكها ومعتقداتها. ونجحت تركيا عملياً في ذلك، إذ استطاعت إقناع الهيئة قبل سنوات بعدم القيام بأي عمليات إرهابية، ولا القيام بعمليات إعدام كما فعل "داعش" وحتى "جيش الإسلام" في الغوطة. وفعلاً تمت معاملة "هيئة تحرير الشام" بصورة استثنائية من روسيا، بناءً على طلب تركيا، وليس مصادفة أن تصبر روسيا نحو تسعة شهور على عدم تطبيق اتفاق سوتشي، لأنها تعلم أن ملف "تحرير الشام" خط أحمر بالنسة لأنقرة، ليس لأسباب أيديولوجية، وإنما لأسباب استراتيجية.
ما الذي حدث، حتى تتغير الأمور وتسمح روسيا للنظام بشنّ عملية عسكرية في إدلب، قبل أن تشارك هي نفسها في المعارك علناً؟ لا يتعلق الأمر بإدلب منطقة جغرافية بحدّ ذاتها، بقدر ما يتعلق باختلاف بعض الرؤى بين الجانبين في ملفات (الطريقين الدوليين في إدلب، شرق الفرات، اللجنة الدستورية).
لا تبدو روسيا مهتمة بمصير هيئة تحرير الشام في هذه المرحلة، ولا بالسيطرة التركية على
ليس معروفاً إلى الآن ما إذا كانت موسكو بصدد السماح للنظام بالاكتفاء بأخذ آخر نقطة في ريف اللاذقية الشمالي، أو المضيّ نحو جسر الشغور، فتصريح وزير الخارجية الروسي لافروف حمّال أوجه "الجيش التركي أنشأ نقاط مراقبة في إدلب، وكانت هناك آمال معقودة على أن وجود العسكريين الأتراك هناك سيحول دون شنّ الإرهابيين هجمات، لكن ذلك لم يحدث". هل يفهم من ذلك أن روسيا اتخذت قراراً بمحاربة ما تسميها التنظيمات الإرهابية في عمق إدلب، أم الاكتفاء بإبعادهم عن المنطقة العازلة؟
طبيعة العلاقة الروسية ـ التركية لا تسمح الآن بخيار العمل العسكري الواسع، وأغلب الظن أنه سيتم الاتفاق على ترتيباتٍ جديدة، منها فتح الطريقين الدوليين، وبقاء خان شيخون وريف حماة الشمالي تحت سيطرة النظام، في مقابل بقاء وسط إدلب وشماليه بيد المعارضة.
ما يجري اليوم في إدلب ليس خلافاً حادّاً بين موسكو وأنقرة كما يروّج بعضهم، وليس تفاهماً مضمراً كما يروج آخرون، وإنما هو تباين في الأولويات. ومن هنا، قد تجد أنقرة في سيطرة النظام على المنطقة الجنوبية من إدلب فرصة لنقل السكان النازحين إلى مناطق شرق الفرات، عقب إنشاء المنطقة الآمنة، وهنا ثمة تلاقٍ روسي ـ تركي.