لغرناطة ألف باب وباب للفتنة التي لا رادَ لها، ولا شيء نافع حيالها. شيءٌ من السحر صيّر المدينة مجازًا واستعارةً لتاريخ العرب في الأندلس. ولعلّ من بوّابات ذاك السحر وأبواب تلك الفتنة، إشعاع المدينة المعماري ورقّة الهندسة فيها، بقصرها، قصر الحمراء وتوابعه، حين كانت تنفرط حبّةً حبة كرمّانة "منوّرة" . مملكة صغيرة منمنمة تواجه مملكتي قشتالة وأراجوان القوّيتين. حصارٌ طويل قبل الاستسلام النهائي، هو القدر الذي لا يخطئ المدن الجميلة غبّ اندثارها. الرمّانة محاصرة، وأسوارها غدتْ حدودها. مع ذلك ثمّة شيء تفتّح على جانبي الحدود، شعر حبّ يسمّى ببساطة شعر الحدود، شعرٌ مكتوبٌ بلغة الرومانث، أي الإسبانية المستعملة في العصور الوسطى. من الصحيح أن هذا الشعر الشعبي يعكس وقائع تاريخية، لكن شيئًا لا يحفّ به إلا الحبّ، فناسُ تلك القصائد لم يكونوا إلا نسخًا بهيّة عن روميو وجولييت.
ومن أشهر تلك القصائد/ الأناشيد، قصيدة "ابن عمّار، ابن عمّار". قوامها حوار بين المسلم (ابن عمّار) والمسيحي (دون خوان الثاني)، ومكانها بالطبع غرناطة. الشعر صيّر المدينة امرأة بين الرجلين. يخاطبها دون خوان وتجيبه : إذا أردتِ يا غرناطة/ بك سأتزوّج/ سأعطيك مهرًا وصداقًا/ قرطبة وإشبيلية./ متزوجةُ أنا، أيها الملك دون خوان/ متزوجةُ أنا، ولستُ أرملة، المسلّم الذي أنا في ذمته/ يحبني حبًّا عظيمًا". شاعرُ القصيدة مجهول، ما فتح الباب أمام الباحثين لنسبة القصيدة تارة إلى مسلم، وتارة أخرى إلى مسيحي. ولئن كانت اللغة مشتركة بينهما، بقيت أحابيل الشعر من تشبيه ومجازٍ واستعارة وكناية دليلًا وحيدًا لحسم أمر صعبٍ كهذا. وتفكيك تلك الأحابيل يشبه في وجه من وجوهه الترجمة، حيث تتمّ مقابلة الجملة الشعرية بغير شقيقتها، من أجل الكشف عن المعنى، أو إزالة تلك الحدود بين الشعر وقصد الشاعر.
إزالة الحدود كانت مطلب عشاق شعراء الحدود، لينعموا بجنّة الحبّ في مملكة غرناطة التي ستغدو عمّا قليل صورة الفردوس المفقود للعرب المسلمين؛ لغةٌ مشتركة، لكن لعرقين مختلفين؛ عرب وإسبان وفقًا لواقعنا اليوم الذي يقول أيضًا بوجود لغتين.
بيد أن اللغة الإسبانية غنمت على ما يبدو من لغة الضاد أزيد من أربعة آلاف كلمة، هذا ما يقوله ضيف ملحق الثقافة المستعرب الإسباني ومدير "مدرسة طليلطلة للمترجمين" لويس ميغيل كانيدا. ولنا أن نتمرّى في كلامه المحبّ للغتنا وثقافتنا، فنظنّ أننا استعدنا شيئًا من أندلس الماضي، لا عبر الحنين المتربّص بنا لكثرة ما أُهرق من دمّ القصائد مدحاً وحزناً وأسىً على ما ضاع من ترف الحضارة الأندلسيّة البهيّة، بل عبر الترجمة.
إذ ربما تكون الترجمة سبيلًا مشابهًا للسبيل الذي خطّته غرناطة، التي كانت تشعّ جمالًا ورقّة معمارية وهي تذوي وتندثر.
فالترجمة باب من أبواب الثقافة والانفتاح على المختلف والغريب، وفوائدها شتّى كما لا يخفى، لكن مصاعبها أيضًا لا تقل عن مقدار فوائدها. مع ذلك، فإن الاهتمام والتمسّك بها، قد يكون بمثابة "غرناطة" في ظلّ هذا الخراب المعمم. حيث ثمة
شيءٌ في "الاستعارة الغرناطية" يجلب إلى البال صور مدن عربية خالصة، تذوي اليوم تحت ضربات وغزوات منها الوطني ومنها الداعشي؛ عدن، وحلب ونمرود ونينوى ومدينة الحضر وحمص القديمة وقلعة الحصن وغيرها. آثار عمران حضاري تُباد عن قصد وبتصميم كبيرٍ، فإن نجت من التحطيم المصوّر على اليوتيوب، تكفّلت السرقات المحترفة والمنظمة بها، كما حدث مثلًا لمدينة أفاميا السورية الواقعة لصق نهر العاصي.
وخلا نقل الخبر في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، فلا يوجد أي شيء في الأفق يوقف هذا الطوفان الهمجي. الهيئات الدولية وأصحاب المناصب العليا من مدراء متاحف ومهتمّين بالآثار، يطلقون النداء تلو النداء. لكن هذا بالطبع لا يؤثّر، فضلًا عن أنه أمر غير مقنع، إذ يفارق الواقع مفارقة عجيبة؛ ذلك لأن هذه الهيئات تعلم تمامًا ما بإمكانها أن تفعل، لكنّها على ما يبدو تميل إلى الاقتداء بالسياسيين، خبراء الشجب والتنديد.
تعلم تلك الهيئات أن ثمة أموراً "بسيطة" تؤدّي إلى الحدّ من سيل هذا الطوفان الهمجي، كمثل دفع رواتب الحرّاس وتزويدهم بما يلزم، والاستفادة من الخبراء، وتأهيل الناشطين الذين يحاولون عبر وسائل غير مهنية المحافظة على تراث بلدهم.
الهيئات لا تفعل شيئًا تقريبًا، لذا تحضر غرناطة مضمّخة بنكهات استعارية، ويحضر الشعر، شقيق الضعفاء. فيجيء إلى البال مقطعٌ من شعر الحبّ، شعر الحدود :"ما تلك القلاع عالية تتلألأ؟/ الحمراء يا سيدي".
ومن أشهر تلك القصائد/ الأناشيد، قصيدة "ابن عمّار، ابن عمّار". قوامها حوار بين المسلم (ابن عمّار) والمسيحي (دون خوان الثاني)، ومكانها بالطبع غرناطة. الشعر صيّر المدينة امرأة بين الرجلين. يخاطبها دون خوان وتجيبه : إذا أردتِ يا غرناطة/ بك سأتزوّج/ سأعطيك مهرًا وصداقًا/ قرطبة وإشبيلية./ متزوجةُ أنا، أيها الملك دون خوان/ متزوجةُ أنا، ولستُ أرملة، المسلّم الذي أنا في ذمته/ يحبني حبًّا عظيمًا". شاعرُ القصيدة مجهول، ما فتح الباب أمام الباحثين لنسبة القصيدة تارة إلى مسلم، وتارة أخرى إلى مسيحي. ولئن كانت اللغة مشتركة بينهما، بقيت أحابيل الشعر من تشبيه ومجازٍ واستعارة وكناية دليلًا وحيدًا لحسم أمر صعبٍ كهذا. وتفكيك تلك الأحابيل يشبه في وجه من وجوهه الترجمة، حيث تتمّ مقابلة الجملة الشعرية بغير شقيقتها، من أجل الكشف عن المعنى، أو إزالة تلك الحدود بين الشعر وقصد الشاعر.
إزالة الحدود كانت مطلب عشاق شعراء الحدود، لينعموا بجنّة الحبّ في مملكة غرناطة التي ستغدو عمّا قليل صورة الفردوس المفقود للعرب المسلمين؛ لغةٌ مشتركة، لكن لعرقين مختلفين؛ عرب وإسبان وفقًا لواقعنا اليوم الذي يقول أيضًا بوجود لغتين.
بيد أن اللغة الإسبانية غنمت على ما يبدو من لغة الضاد أزيد من أربعة آلاف كلمة، هذا ما يقوله ضيف ملحق الثقافة المستعرب الإسباني ومدير "مدرسة طليلطلة للمترجمين" لويس ميغيل كانيدا. ولنا أن نتمرّى في كلامه المحبّ للغتنا وثقافتنا، فنظنّ أننا استعدنا شيئًا من أندلس الماضي، لا عبر الحنين المتربّص بنا لكثرة ما أُهرق من دمّ القصائد مدحاً وحزناً وأسىً على ما ضاع من ترف الحضارة الأندلسيّة البهيّة، بل عبر الترجمة.
إذ ربما تكون الترجمة سبيلًا مشابهًا للسبيل الذي خطّته غرناطة، التي كانت تشعّ جمالًا ورقّة معمارية وهي تذوي وتندثر.
فالترجمة باب من أبواب الثقافة والانفتاح على المختلف والغريب، وفوائدها شتّى كما لا يخفى، لكن مصاعبها أيضًا لا تقل عن مقدار فوائدها. مع ذلك، فإن الاهتمام والتمسّك بها، قد يكون بمثابة "غرناطة" في ظلّ هذا الخراب المعمم. حيث ثمة
شيءٌ في "الاستعارة الغرناطية" يجلب إلى البال صور مدن عربية خالصة، تذوي اليوم تحت ضربات وغزوات منها الوطني ومنها الداعشي؛ عدن، وحلب ونمرود ونينوى ومدينة الحضر وحمص القديمة وقلعة الحصن وغيرها. آثار عمران حضاري تُباد عن قصد وبتصميم كبيرٍ، فإن نجت من التحطيم المصوّر على اليوتيوب، تكفّلت السرقات المحترفة والمنظمة بها، كما حدث مثلًا لمدينة أفاميا السورية الواقعة لصق نهر العاصي.
وخلا نقل الخبر في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، فلا يوجد أي شيء في الأفق يوقف هذا الطوفان الهمجي. الهيئات الدولية وأصحاب المناصب العليا من مدراء متاحف ومهتمّين بالآثار، يطلقون النداء تلو النداء. لكن هذا بالطبع لا يؤثّر، فضلًا عن أنه أمر غير مقنع، إذ يفارق الواقع مفارقة عجيبة؛ ذلك لأن هذه الهيئات تعلم تمامًا ما بإمكانها أن تفعل، لكنّها على ما يبدو تميل إلى الاقتداء بالسياسيين، خبراء الشجب والتنديد.
تعلم تلك الهيئات أن ثمة أموراً "بسيطة" تؤدّي إلى الحدّ من سيل هذا الطوفان الهمجي، كمثل دفع رواتب الحرّاس وتزويدهم بما يلزم، والاستفادة من الخبراء، وتأهيل الناشطين الذين يحاولون عبر وسائل غير مهنية المحافظة على تراث بلدهم.
الهيئات لا تفعل شيئًا تقريبًا، لذا تحضر غرناطة مضمّخة بنكهات استعارية، ويحضر الشعر، شقيق الضعفاء. فيجيء إلى البال مقطعٌ من شعر الحبّ، شعر الحدود :"ما تلك القلاع عالية تتلألأ؟/ الحمراء يا سيدي".