شجعت أخبار رحلات السويسري جان لويس بيركهارت التي أنجزها لصالح لندن في منطقة المشرق العربي بما في ذلك وادي الأردن، رحالة ومستكشفين بريطانيين على القدوم من جديد إلى الأراضي المقدسة، بعد أن كانت وفاة أحمد باشا الجزار قد وضعت حداً لبرامجهم بشكل مؤقت. وأول بريطاني يسير على خطا بيركهارت هو الرحالة جيمس سيلك بكنغهام، الموظف المرموق في شركة الهند الشرقية.
وكان بكنغهام، أثناء عمله في شركة الهند الشرقية، مولعاً بالمغامرات والترحال، يغتنم ما يتجمع لديه من إجازات سنوية ليقوم برحلة يستكشف خلالها طريقاً محتملاً للوصول إلى الهند. وقد بدأ رحلاته بمصر عام 1812، سالكاً عكس مجرى النيل، من بور سعيد وحتى أسوان. في سنة 1814 قام برحلة إلى فلسطين وشرق الأردن، ثم في سنة 1816 بدأ رحلته إلى العراق عن طريق سورية، وعبر بلاد الرافدين إلى الهند عن طريق إيران.
وأول بريطاني يسير على خطا بيركهارت هو الرحالة جيمس سيلك بكنغهام
وقد أصدر كلاً من رحلاته السابقة بمجلدين لكل رحلة، كما أصدر كتاباً باسم "رحلات بين العشائر العربية"، تحدث فيه عن تطوافه بين قبائل العرب على امتداد سورية وفلسطين وشرق الأردن والعراق. وحين استقر به الحال في لندن، بعدما اختلف مع شركة الهند الشرقية، أصدر هناك جريدة باسم "صوت الشرق" عام 1824، ثم أعقبها بإصدار صحيفة المجمع العلمي سنة 1828، لكنها لم تلق النجاح المأمول. ورغم إصابة بكنغهام بشيء من الخذلان نتيجة عدم تمكنه من إكمال رحلته التي بدأها متنكراً بزي عربي، من جنوب بحيرة طبرية عام 1814 نحو البحر الميت بسبب حروب قبلية اندلعت هناك، إلا أنه لم يفقد الأمل بالعثور على طريق تجارية مجدية إلى الهند.
وبقي هذا الاحتمال قائماً يدغدغ مشاعر البريطانيين أربع سنوات أخرى، إلى أن قام ضابطان من البحرية الملكية، هما تشارلز ليونارد إربي وجيمس منغلز، برحلة استكشافية إلى ضفتي الأردن في طريقهما إلى مصر والنوبة، زارا خلالها "الأراضي المقدسة"، وسجل لهما في سجل الرحالة والمستكشفين الغربيين قصب السبق في اكتشاف "بحيرة فيالا"، التي يرد ذكرها في كتاب المؤرخ اليهودي جوسيفوس، كما زارا بانياس وسهل الحولة والحمة في جنوب الجولان، ولكنها لم يأتيا بجديد على صعيد استكشاف طريق إلى الهند يمر في وادي الأردن والبحر الميت.
وقد بدأت رحلة إربي ومنغلز في 14 آب/ أغسطس عام 1816، حيث غادرا إنكلترا للقيام بجولة في القارة، وقادهما الفضول أولاً، ثم الإعجاب المتزايد بالعصور القديمة ثانياً، إلى الغوص في تفاصيل العديد من مناطق الشرق، الذي استغرق منهما أكثر من أربع سنوات من العمل المستمر. وبعد عودتهما إلى إنكلترا مباشرة، مع نهاية عام 1820، تم إقناعهما بنشر مختارات من الرسائل التي بعثا بها إلى ذويهما أثناء غيابهما، والتي صدرت عام 1823 في لندن تحت عنوان "رحلات في مصر ونوبيا وسورية وآسيا الصغرى - 1817 و1818".
وقائع الرحلة
في الثالث والعشرين من شباط/ فبراير عام 1818، غادر الضابطان الإنكليزيان إربي ومنغلز دمشق، تلك المدينة المبهجة، كما كتبا في رسالتهما الرابعة (جولة في سورية)، متوجهين إلى منابع الأردن. وعند الظهيرة كانا قد غادرا سهل دمشق الأجرد، ذا التربة الغنية، ووصلا إلى ربوة مرتفعة قليلاً يعبرها جدول نحيل، وهو على الأغلب نهر الأعوج. وفي الساعة الرابعة بعد الظهر توقفا في خان سعسع على الطريق الذي يصل دمشق بجسر يعقوب الواقع في ذلك الجزء من الأردن بين بحيرتي الحولة وطبريّة. ويبدو أنهما باتا ليلتهما في خان سعسع واستأنفا تحركهما باتجاه بانياس في صباح اليوم التالي، عن طريق بيت جن، التي لا يسميانها، مع أنهما يذكران السهل الضيق الذي يصل بين سعسع وبيت جن والنهر المتعرج والجميل الذي تغذيه جداول عديدة.
طريق قيصرية فيليبي
وفي الأميال التي تفصل بيت جن عن بانياس يلاحظ إربي ومنغلز وجود آثار وخرائب قديمة وبقايا طريقٍ معبّدٍ خالٍ من أي نباتات، رجحا أنه طريق روماني قديم يصل دمشق بقيصرية فيليبي [بانياس]. وأثناء صعودهما، كانت قمة جبل الشيخ البيضاء على يمينهما، وثمة أماكن مرّا بها بلغت سماكة الثلج درجة كبيرة فيها، بحيث وجدت الخيول صعوبة كبيرة في اجتيازها. مع الانحدار التدريجي أصبح الطريق أقل وعورة وكانت قطعان الماعز تنتشر على رقعة خضراء غنية.
بدأت رحلة إربي ومنغلز في 14 آب/ أغسطس عام 1816
وهنا بدأت الأشجار تتكاثف بشكل تدريجي، ويزداد جمالها، إلى أن انحدرا إلى سهل غني جداً بالخضرة في أسفل جبل الشيخ، حيث لاحظا وجود ضريح واضح في المكان، لم يكن في حقيقة الأمر سوى ضريح الخضر قرب نبع بانياس. ويصف إربي ومنغلز نهر بانياس، الذي ينبع من أسفل الجبل ويمرّ من الجانب الغربي للسهل باتجاه الجنوب الغربي، ثم يتحدثان عن جريانه السريع الرائع، خلال واد عميق، [هو في حقيقة الأمر واد خشبة] مغطّى بشجيرات من مختلف الأنواع، لينضمّ بعد ذلك إلى نهر الأردن. ويذكر إربي ومنغلز أن خريطة آرو- سميث تركز على أن نهر بانياس هو المصدر الحقيقي لنهر الأردن، وهو رأي باتا، يؤيدانه في الجدل الدائر حول الموضوع، نظراً لأنهما لاحظا أن ينابيع بانياس هي الأكثر غزارة.
عند بحيرة فيالا
ويغادر الضابطان الإنكليزيان سهل بانياس باتجاه قرية مسعدة "الصغيرة جداً"، والتي لا يسميانها، حيث يصلان إليها في الساعة الواحدة ظهراً. ويتحدثان عن بحيرة مستديرة رائعة جداً، يتجاوز قطرها الميل، تحيط بها من كل الجوانب تلال كثيفة الأشجار. ويضيفان أن هذه البحيرة تتفرّد بعدم وجود مصدر أو مخرج ظاهر لها، ومع ذلك يلاحظان أن مياهها، التي يسبح فيها عدد كبير من الطيور البرية، بدت صافية وشفّافة.
يشير إربي ومنغلز إلى أن كل ذلك يؤكد أنّ هذه البحيرة هي التي أشار إليها من قبل كل من بروكهاردت وسيتزن، وهما الرحالان اللذان سافرا من دمشق إلى بانياس عن طريق راشيا وحاصبيا. ويذكران أن خريطة آرو-سميث تطلق على البحيرة اسم بركة الرام اعتماداً على سيتزن. بعد ذلك يستعرضان ما ذكره المؤرخ اليهودي جوزيفوس عن هذه البحيرة، والتي يسميها بحيرة "فيالا" (أي الكأس باللغة اللاتينية)، وهي التسمية المأخوذة من شكلها. ثم يناقشان افتراض القدماء بأن هذه البحيرة هي المصدر الحقيقي لنهر الأردن؛ مارين على قصة جوزيفوس التي زعم فيها أنّهم رموا عصافة من القش في البحيرة، فخرج من نبع بانياس. ويرى إربي ومنغلز أن هذه الكلام مستحيل من الناحية العملية.
مدينة بانياس
وبعدما غادرا بحيرة فيالا، وعلى مسافة قصيرة منها، عبرا جدولاً يصب في نهر بانياس الكبير، وبعد قليل، في الاتجاه الجنوبي الغربي يريان قلعة إسلامية (ساراسينيك) عظيمة، أخذت اسمها من بلدة بانياس، وخلفها في البعيد سهل وبحيرة الحولة ونهر الأردن، وبشكل مواز على الجانب الآخر للسهل سلاسل الجبال. وهذه القلعة لم تكن إلا قلعة الصبيبة. وعندما انحدرا عائدين إلى بانياس فوجئا بالخضرة في كل مكان، وبكثافة الأزهار البرية، والشجيرات المتبرعمة، إلى جانب حقول الذرة والفاصولياء.
لقد نقلتهما مشاهد الربيع الجميل تلك إلى مناخ آخر يختلف عن جميع المناطق التي مرا بها منذ أن غادرا دمشق، رغم أنها تقع على خط عرض واحد. وفي طريق عودتهما إلى بانياس يلاحظان وجود بقايا جدران عربية إسلامية، وهي على الأرجح بقايا قلعة المدينة وسورها. ويلاحظ الضابطان البريطانيان أن بلدة بانياس الحالية (عام 1818) صغيرة، وأرضها على شكل مثلث محصور بين نهرين وجبل. والأراضي المجاورة لها جميلة جداً، وذات أشجار كثيفة، وهي مكان مثالي للهو. ويتحدثان عن وجود تشكيلة كبيرة من طيور الحجل والبط البري والشنقب في المكان ذهبا لصيدها، لكنهما كانا ضعيفين بهذه الرياضة.
بعد ذلك يستعرض إربي ومنغلز تاريخ مدينة بانياس القديم والتي كانت تدعى قيصرية فيلبي، اعتماداً على جوزيفوس، لكنهما يؤكدان عدم عثورهما على المعبد الذي زعم جوزيفوس أن هيرود بناه تكريماً للقيصر، ويشيران إلى وجود كوات عليها نقوش يونانية قرب نبع بانياس المتدفق من تحت كهف أسفل المنحدر.
وادي الأردن
يسير الضابطان الإنكليزيان بعد ذلك متتبعان نهر بانياس باتجاه بحيرة الحولة، وبعد مسير ميلين ينتهي الغطاء النباتي الجميل وذلك عند وصولهما إلى سهل الحولة الغني والمليء بالمياه. وبعدما يتجاوزا سهل الحولة إثر معاناة من المستنقعات كابدتها الخيول، يصلان يوم 26 شباط/ فبراير [في الأصل خطأ مطبعي شهر أيار (مايو)] إلى صفد، التي وجدا صعوبة في الاهتداء إلى طريقها. وبعد أن يمضي الضابطان عدة أيام في صفد، يقرران استكشاف المنطقة المحيطة بطبريا.
يستعرض إربي ومنغلز تاريخ مدينة بانياس القديم والتي كانت تدعى قيصرية فيلبي،
يقولان في رسالة من الرسائل التي تضمنت وقائع رحلتهما: "في الثاني من آذار (مارس) وصل السّيد بانكيس بعدما قام بجولة شاملة لحوران، وجال حول بحيرة طبريّة. كان قد اقترح بأنّ ننضمّ إليه في جولته القادمة التي يأمل أن تدور حول البحر الميت وصولا إلى القدس؛ عبّر عن رغبته هذه في حلب، وترك رسالة في دمشق بالمضمون نفسه. وقد صمّم بانكيس على المحاولة بعدما تعذر انضمامنا إليه. إذ قام بزيارة قصيرة إلى صفد، بينما نحن قررنا زيارة أم قيس (جدارا القديمة)، في بلاد الجداريين".
ويضيفان: "في صباح الخامس من آذار (مارس) انحدرنا إلى وادي اليرموك لزيارة الينابيع الحارة هناك؛ هي ليست مثيرة للاهتمام مثل ينابيع طبريّة. أحد هذه الينابيع محاط بالنخيل بطريقة رائعة جدا؛ ليس عميقاً، وسطحه مغطّى بأنواع الإشنيات الحمراء التي تشبه الإسفنج الخام إلى حد ما.. أهل المنطقة أخبرونا بأنهم يعالجون جمالهم بها من الآفات الجلدية. لقد وجدنا العديد من المرضى الذين أتوا في فصل الربيع هذا للعلاج من أمراضهم رغم خراب الحمّام الروماني. سرنا مع نهر اليرموك حتى اقتربنا من المكان الذي عبرناه مساء أمس، وعدنا بالقارب إلى طبريّة". وتتابع الرسالة: "في المساء قسنا قطر المدينة، وقمنا باستكشاف الحي القديم.
اكتشف السيد بانكيس تحصيناً قديماً يقع إلى الغرب من المجدل على الجانب الشمالي لمدخل وادي الحمام؛ هناك منحدر عمودي عال ذو جوانب حادة يشكّل عائقاً طبيعياَ في اثنين من جوانب الحصن، الجانب الآخر مبني بحائط شاهق ومحمي بأبراج. لقد استغرقنا يومين في أخذ المقاييس. أهالي البلاد يدعونه قلعة الحمام، وهو تحفة قديمة جدا بالتأكيد، ويعتقد السّيد بانكيس أنه يعود للفترة ما قبل رومانية". وتلفت نظرهما بعض الأديرة القديمة المثيرة للانتباه في جانب المنحدر، على اليسار عند الذهاب من قرية المجدل إلى قلعة الحمام؛ ويقولان إن هذه الأديرة فريدة من نوعها.
حمامات طبريا الحارة
بعد ذلك يصفان حمامات طبريا المعدنية الواقعة قرب قرية المجدل: "إلى الجنوب من المجدل ثمة خراب لستّة حمّامات رومانية للمياه المعدنية، لكن درجة حرارتها فاترة.. تبدو هذه الحمّامات دائرية، ويبلغ قطر البركة بين خمسة عشر إلى عشرين قدماً محاطة بحائط على ارتفاع حوالي اثني عشر قدماً. في الوقت الحاضر ليس هناك مرافق للدخول أو الخروج.. وهذه البقعة من الأرض رائعة جدا الآن، فهي على مقربة من البحيرة، وهي تعج بالشجيرات والأعشاب والزهور البرّية.. مياه هذه البرك نقية جداً، يمكن رؤية الأحجار في القاع على عمق ستّة أو سبعة أقدام تقريبا، ويمكن قضاء وقت ممتع في السباحة، فمياه هذه الينابيع تصب في البحيرة. لقد سبحنا إلى أن وصلنا إلى صخرة العقرب، لكن لا وجود للعقارب فيها".
وتقول الرسالة: "تركنا طبريا في العاشر من آذار (مارس) في الضحى، ولاحظنا، ونحن نتابع ضفاف البحيرة، وجود برج دائري على جزء من حائط البلدة القديمة. تركنا الحمّامات الحارة وقت الظّهيرة، وتوجهنا نحو الحدّ الأقصى الجنوبي للبحيرة.. يبدو نهر الأردن في هذا الجانب من مجراه شديد التعرج وله تيار صغير. الجسر الروماني الخرب [لعله جسر الصنبرة] له عشرة أقواس، وثمة كتابة تشير إلى اتجاه قرية أم قيس، والطريق إليها يبدو مكشوفاً في قرى خالية من الأشجار".
جسر المجامع وبيسان
عند السّاعة الثّالثة من ذلك اليوم يصل رحالتانا إلى خان قرب جسر المجامع، وهو خان مملوكي مبني بطريقة رائعة جدا، بحسب وصفهما. ثم يصفان الجسر بأنه يتضمّن قوساً مركزياً وأقواساً صغيرة على الجوانب. ثم يقولان: "سرنا حوالي ساعة واحدة فوجدنا على الطريق حجارة أميال رومانية، عليها كتابات واضحة. وقبل أن نسلك الطريق المؤدي إلى بيسان رأينا قبرا مرتفعا عن الطريق؛ ثم عبرنا جدولا صغيرا وصعدنا إلى بيسان، فوصلناها في وقت الغروب؛ أثناء رحلتنا لهذا اليوم شاهدنا عدداً عظيماً من المضارب البدوية. بيسان يفترض أنّها هي بيث شان في الكتاب المقدّس، دعيت سكيثوبوليس بعد ذلك، وكانت المدينة الأكبر في تحالف الديكابوليس، والوحيدة على الجانب الغربي من الأردن". في التالي يبدآن باستكشاف خرائب بيسان ويلاحظان أن الجسم الرئيسي للمدرج الروماني ما زال يحتفظ بجماله وتميزه، لكنه الآن ممتلئ بالأعشاب الضارة.
ختام مرحلة
رغم أن إربي ومنغلز حققا نجاحات مقبولة في استكشاف "الأراضي المقدسة"، ووصلا فعلاً إلى البحر الميت عابرين وادي الأردن، إلا أن جهودهما هذه لم تغيّر من حقيقة الصورة السلبية التي رسمها المصير المأساوي للرحالة الألماني أولريخ سيتزن وبيركهارت، والفشل النسبي لبكنغهام، وهو ما جعل الباحثين يرون في رحلة إربي ومنغلز خاتمة للموجة الأولى من موجات استكشاف الأراضي المقدسة التي تعاقبت بعد ذلك بوتيرة أعلى بعد دخول قوات إبراهيم باشا المصري إلى بلاد الشام.