قال ساركوزي بشكل فيه الكثير من الاستهجان والسخرية: "تونس موجودة بين الجزائر وليبيا، وهذا أمر واقع لا يمكن تغييره. أما الجزائر، فلا أحد يستطيع أن يتوقّع مستقبلها، ولا إلى أين ستسير الأمور فيها. أمّا ليبيا، فقد تركها الجميع لمصيرها. عندما غادرت الحكم، كانت ليبيا قد أجرت أولى انتخاباتها الديمقراطية التي ربحها المعتدلون كما تعرفون".
بغض النظر عن الموضوع الليبي، فقد كانت رسالة ساركوزي حول الجزائر موجّهة إلى كل من يهمهم "المستقبل الجزائري"، أو مرحلة ما بعد الرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة داخل الجزائر وخارجها، في أوروبا والولايات المتحدة المعنية بالمسألة الجزائرية في الفترة الأخيرة. وما يدلّ على أن عبارة ساركوزي الجزائرية لم تكن اعتباطية، إنّما مدروسة بعناية، هو اقتراحه الإطار السياسي الذي يراه الأنسب لطرح هذا النوع من المشاكل. سعى ساركوزي إلى إحياء فكرة "الاتحاد من أجل المتوسط"، وجعله سلاح حملته في السياسة الخارجية والداخلية لارتباطهما معاً في مسألة الهجرة ومشاكلها المتراكمة فرنسياً وأوروبياً.
يعرف المتابعون أن ساركوزي يريد إعادة طرح موضوع الاتحاد الأوروبي برمّته وتشكيله من جديد على مستوى الهجرة خصوصاً، وهو من أشد المعارضين حالياً لفكرة تحديد نسب معيّنة للمهاجرين، بقوله، "لم يعد بإمكاننا استقبال مهاجرين نعجز عن دمجهم". ويطرح ساركوزي ما يسمى بـ"شنغن 2" التي تعوّض الاتفاقية الأوروبية الأولى في ما يخصّ الهجرة تحديداً، والتي لن تتضمن، بحسب ساركوزي، إلّا الدول التي تتبنّى سياسة الهجرة ذاتها.
اقرأ أيضاً: ساركوزي يدعو الغرب لمساعدة تونس في مكافحة "الإرهاب"
شدّد ساركوزي في معظم تصريحاته الصحافية المتتالية التي عقدها في تونس، على موضوع الهجرة والمتغيّرات المطروحة جنوب المتوسط، منتقداً كل القرارات الأوروبية في هذا الشأن، قائلاً: "داعش على الأبواب، وتونس هي حدّنا الأخير قبل التهديد المباشر لأوروبا. كما أنّ ليبيا تُركت لتواجه مصيرها وحدها ولا ينبغي أن يتكرر الأمر في تونس". وتابع، "كانت نسبة 20 في المائة من المساعدات الأوروبية لليونان كفيلة بإنقاذ تونس". كلام ساركوزي يعني أن كلّ السياسة الأوروبية جنوباً كانت خاطئة، وأنّه "المنقذ المنتظر" مع اتحاد المتوسط الذي لم ينجح في تحقيق أي شيء لجنوب المتوسط، بل كما يعرف الجميع، كان إطاراً يهيّئ للتطبيع مع إسرائيل. يريد ساركوزي أن يقول للتونسيين ومن ورائهم لأبنائهم المقيمين في فرنسا، إنّه القادر على تغيير الأمور إذا صوّتوا له ولحزبه مستقبلاً.
وإذا كان دفاع ساركوزي عن الديمقراطية الناشئة والربيع العربي الوحيد الناجح، قد يكون مقبولاً، لكن ما لم يقبله كثيرون في تونس، هو إشارته إلى "الصديق الذي ينبغي أن يكون إلى جانب أصدقائه وقت النجاح والمحن". وتساءل كثيرون عن "استيقاظ" ساركوزي الآن، متذكراً أنّ لديه أصدقاء في تونس، وعمّا قدّمه لتونس قبل مغادرته الحكم عام 2012، بعد وقوفه ووزيرته للداخلية ميشال أليو ماري إلى جانب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي واقتراح مدّه بالأسلحة، لوأد الانتفاضات الجماهيرية في تونس.
ساركوزي، والذي جاء إلى تونس بعد محطة مغربية، وجّه سهامه إلى الجزائر التي استقبلت منافسه اللدود الرئيس الحالي فرنسوا هولاند منذ فترة. لكنه لم ينتقدها لهذا السبب فحسب، فلطالما كانت الجزائر غاضبة من فرنسا أيام حكم ساركوزي، وتميّزت علاقات البلدين ببرودة شديدة تحوّلت إلى شبه قطيعة أحياناً. وربما كان ساركوزي يخاطب أيضاً المعنيين من الجزائريين لما بعد بوتفليقة. وفي كل الحالات، فقد كانت العبارة التي سيسيل بعدها حبر كثير، لم تكن تونس بالذات تتمنّى أن تنطلق من أراضيها، لحرصها الشديد على علاقاتها القوية بالجارة الجزائر، ولعلمها المسبق بالحساسية الجزائرية الشديدة لهذا النوع من المواضيع، لكن ساركوزي الطموح، كالعادة لا يهتم بحسابات الآخرين أبداً، بل ما يهمّه نفسه فقط.
واعتبر ساركوزي في رحلته إلى المغرب أنّ "المملكة هي الحلقة الأقوى في المغرب العربي وأنّها الأكثر استقراراً، في حين أن كثيرين اعتبروها الأضعف إبان ولادة الربيع العربي، في إشارة مستفزة أخرى إلى الجزائر.
وأتت ردود الفعل قوية من الجانب التونسي، منتقدة زيارة وتصريحات ساركوزي في البلاد. وقال رئيس "حزب العمال"، حمه الهمام في مؤتمر صحافي، يوم الإثنين، "لا أهلاً ولا سهلاً بساركوزي، هذا اليميني المتطرّف الذي تسبّب بتدمير ليبيا بمساعدة نظام بن علي الاستبدادي إلى آخر أيّامه، أضف إلى ذلك، تصريحاته المستفزّة للجارة والشقيقة الجزائر". وعبّر حزب "المجد" في بيان له عن عدم ارتياحه لزيارة ساركوزي. وتطرق البيان إلى ما اعتبره "الماضي الحافل لساركوزي"، بما في ذلك تعاطيه مع قضية المهاجرين ودوره المشبوه في المسألتين الليبية والسورية، وإعلانه عن رغبته في تغيير خارطة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وانحيازه لإسرائيل واستعداده التام لدعم نظام بن علي في آخر أيامه". واعتبر "المجد" أن ساركوزي شخص غير مرغوب فيه من قبل التونسيين، مؤكداً رفضه لما سماه "دبلوماسية الإذعان والاستعداد للغفران عن كل شيء، من دون الحصول على شيء سوى دفعة هامشية للسياحة أو توفير بعض التأشيرات الجديدة".
اقرأ أيضاً: ماذا يفعل ساركوزي في تونس؟