ويعكس البيان الذي أصدرته الخارجية الإسرائيلية، في واقع الحال، حقيقة النظرة الإسرائيلية للرئيس أردوغان، وخيبة الأمل الإسرائيلية المتواصلة من تمسك أردوغان بمواقفه المعلنة مراراً في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، والموقف من الحصار المفروض على قطاع غزة، ورفض تهويد القدس والسيطرة الإسرائيلية على المسجد الأقصى المبارك.
فقد أبرز البيان الإسرائيلي التركيز على الاستهداف الشخصي للرئيس أردوغان وليس تركيا الدولة، إذ جاء في البيان: "إن من ينتهك حقوق الإنسان بشكل منهجي في بلاده، لا يحق له أن يعظ الديمقراطية الحقيقية الوحيدة في المنطقة. إسرائيل تحرص على ضمان حرية العبادة بشكل كامل لليهود والمسلمين والمسيحيين، وسنواصل ذلك على الرغم من التشويه العاري عن الصحة".
وفيما تسابق السياسيون لمهاجمة أردوغان بدءاً من رئيس الكنيست يولي إدلشتاين، الذي وصف الرئيس التركي بأنه "كان عدواً وسيبقى عدواً لإسرائيل"، ومروراً برئيس بلدية القدس المحتلة، نير بركات، فقد أعلنت مصادر في وزارة الخارجية الإسرائيلية أن إسرائيل لا ترغب بتصعيد في العلاقات مع تركيا، وأنها تعتبر أن الأزمة قد انتهت، بعد أن ردت إسرائيل على تصريحات أردوغان، وأنها تتوقع استعادة العلاقات لطبيعتها باتجاه تطبيع العلاقات وتعزيز التعاون المتبادل بين البلدين.
على الرغم من ذلك، يتضح من التغطية في الصحف الإسرائيلية لتصريحات أردوغان، والقول إن الحكومة الإسرائيلية فوجئت بتصريحاته، وحاولت تفسير سببها وتوقيتها، والذهاب إلى القول مجدداً "بأنه لا أحد يعرف متى يقفز (الأردوغان) من داخل الرئيس رجب طيب أردوغان ليشن هجوماً على إسرائيل"، أنه يوجد جهد إسرائيل منهجي ومثابر لتكريس تشويه صورة الرئيس أردوغان. فقد ورد استخدام هذا المصطلح "متى يقفز الأردوغان" بشكل خاص في موقعين أمس، في تحليل ليوسي ميلمان في صحيفة معاريف، وفي تحليل لإيتمار أيخنر في يديعوت أحرونوت، وذلك في سياق سرد محاولات وزارة الخارجية الإسرائيلية تفسير سبب إطلاق تصريحات أردوغان. ويمكن استناداً إلى تكرار استخدام هذا المصطلح في سياق الحديث عن أردوغان في أروقة القرار والمحافل السياسية والإعلامية القول إنه يوجد تركيز على الادعاء بأن شخصية أردوغان غير مستقرة وأنه لا يمكن توقع مواقفه وتصريحاته من إسرائيل، طبقاً لاعتباراته الداخلية ولنزعاته ومطامعه لتكريس شخصه زعيماً وفرض هيمنة تركيا في الفضاء الإسلامي السني، بحسب هذه النظرة الإسرائيلية.
في هذا السياق، قال المحلل الإسرائيلي يوسي ميلمان، في "معاريف"، مثلاً، إن إسرائيل فوجئت بتصريحات أردوغان وتوقيتها، واعتبر أنها وقعت على إسرائيل "كالرعد في يوم صاف". وأضاف ميلمان أن وزارة الخارجية الإسرائيلية وأجهزة الأمن والخبراء في الشأن التركي يواجهون صعوبة في فهم توقيت هذا الهجوم، وأنهم حاولوا طرح ثلاثة تفسيرات لذلك. الأول هو الحدث الذي ألقى فيه أردوغان خطابه، أي مؤتمر أوقاف القدس، وهو حدث يستدعي انتقادات لاذعة وشديدة، خصوصاً في ظل سعي الحكومة الإسرائيلية لتشريع قانون منع الأذان عبر مكبرات الصوت، وبالتالي من الصعب توقع أن يترك أردوغان فرصة كهذه.
التفسير الثاني، برأي الجهات الإسرائيلية، بحسب ما يورده ميلمان، يتعلق بطابع الرئيس أردوغان وشخصيته والاتجاه للقول إن ردوده غير متوقعة، وهو ما حدث معه في تعامله مع دول أخرى وقادة آخرين من العالم، لا سيما تعامله مع الرئيس الإسرائيلي السابق، شمعون بيريز، في مؤتمر دافوس الاقتصادي قبل سنوات. وقد يكون هذا الهجوم نوعاً من التحذير الأخير لإسرائيل من مواصلة نمط تعاملها الحالي معه، إذ امتنع رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، كما هو معروف، حتى الآن عن تهنئة أردوغان بفوزه في الاستفتاء الشعبي الأخير، ولم يجر أي اتصال رسمي معه، ولم يوجه له أي برقية بهذا الخصوص، خلافاً لما يقوم به نتنياهو عادة في مثل هذه الحالات. وقد جاء الرد الإسرائيلي بارداً، على غرار الردود الأوروبية وليس مثلاً كما فعل الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
في المقابل، اعتبر مدير الخارجية الإسرائيلية سابقاً، دوري غولد، أن اتفاق المصالحة بين إسرائيل وتركيا، لا يلزم الطرفين بمعايير ومصطلحات محددة للتخاطب في ما بينهما، وأن المصالحة لا تعني بالضرورة أن تقبل تركيا بالمعايير والمواقف الإسرائيلية، لا سيما أن أردوغان يحمل أيديولوجيا واضحة قريبة من أفكار الإخوان المسلمين، وهو يسعى لتكريس دور تركيا وهيمنتها في المشهد السني في ظل تصاعد نفوذ إيران ومشروعها في المنطقة، على حد وصفه.
وبحسب غولد، فإن الرد الرسمي الإسرائيلي على تصريحات أردوغان كان في مكانه، لكن هذا لا يعني التراجع أو الابتعاد عن رؤية القاسم المشترك بين الطرفين، وهو العداء لإيران ومشروعها في المنطقة، ناهيك عن المشاريع الاقتصادية والمصالح المشتركة بين البلدين، على حد قوله.
لكن في الوقت نفسه يستدل من الردود التي أثارتها تصريحات الرئيس أردوغان، في مؤتمر أوقاف القدس، أن هناك نوعاً من القطيعة، وربما الفصام بين الأجهزة والأوساط الأمنية ودوائر التقدير السياسي تحديداً في الخارجية الإسرائيلية التي يديرها نتنياهو، لا سيما بعدما ذكر تقرير لصحيفة يديعوت أحرونوت أن تصريحات أردوغان لم تفاجئ الأجهزة العسكرية أو الأمنية في إسرائيل، وأن الأخيرة لم تفاجأ من هذه التصريحات على الإطلاق. وقال تقرير للمراسل العسكري لموقع يديعوت أحرونوت، يوأف زيتون، إنه من الصعب القول إن هذه التصريحات قد فاجأت أحداً في المؤسسة العسكرية، بالرغم من توقيع اتفاق المصالحة بين تركيا وإسرائيل. وادعى التقرير في هذا السياق أنه على الرغم من هذا الاتفاق فلا تزال تركيا تحتضن في أراضيها العشرات من نشطاء حركة حماس، سواء من الذراع المدنية أم الذراع العسكرية. ومما قاله التقرير إنه بالرغم من مغادرة صلاح العاروري للأراضي التركية، إلا أن "حماس" تواصل نشاطها في تركيا وتركز على تجنيد طلبة فلسطينيين، وتدريبهم في سورية أو لبنان، ومن هناك يعودون للضفة الغربية المحتلة لتنفيذ عمليات ضد الاحتلال، على حد قوله.
يبقى أن الهجوم الشخصي على أردوغان يعيد إلى الأذهان التعامل الذي حظي به من قبل إسرائيل الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، بالرغم من الفرق بين الحالتين، إلا أن إسرائيل، سواء بشكل رسمي أو من خلال تصريحات لسياسيين من الدرجة الثانية ووسائل الإعلام، اعتادت على توجيه أسهم نقد واتهامات بالعداء لإسرائيل واليهود إلى أوباما كلما توترت العلاقات بينه وبين إسرائيل، على خلفية طرح حل الدولتين والمحاولات الأميركية في عهد أوباما للتوصل إلى تسوية تقوم على مبدأ حل الدولتين.
وفي ما يخص أردوغان، فإن التهم الجاهزة دائماً للتلويح بها ضده، هي سعيه، وفق ما تكثر الصحف الإسرائيلية من ترداده، إلى "تكريس نفسه سلطاناً على غرار السلاطين العثمانيين"، واحتضانه لحركة "حماس"، وصولا إلى اتهامه بإطلاق تصريحات معادية للسامية، في وصف كل انتقاد لسياسات دولة الاحتلال. ومن الواضح أن إسرائيل، ومنذ أن هاجم أردوغان في منتدى دافوس الرئيس الإسرائيلي، شمعون بيريز، على جرائم إسرائيل في غزة خلال عدوان الرصاص المصبوب، وما تبع ذلك من تدهور العلاقات مع أنقرة بعد جريمة السفينة مافي مرمرة، واضطرار نتنياهو للاعتذار لتركيا عن مقتل النشطاء الأتراك على متن السفينة مافي مرمرة في أيار/ مايو 2010، تحت ضغط الرئيس الأميركي في ذلك الحين باراك أوباما، كانت تفضل التعامل مع رئيس آخر من خارج التيار الإسلامي، بما يذكّر بالفترة الذهبية للعلاقات بين الطرفين، حتى أوائل التسعينيات. لكنها تجد نفسها الآن مضطرة لتحمّل ما تصفه "بقفزة الأردوغان" من داخل الرئيس رجب الطيب، بفعل المصالح المشتركة، والمطامع الإسرائيلية في ثمار العلاقات مع تركيا، ولا سيما في مجال التعاون العسكري والأمني الذي تضرر كثيراً بفعل الأزمات التي عكّرت العلاقات بين الطرفين، حتى توقيع اتفاق المصالحة.