خلال الأعوام الأربعة الماضية، أفرزت الثورة السورية في الداخل والخارج مشهدا إعلاميا مثيرا ونافرا من حيث تأثيثاته الشكلية والمضمونية، سواء لجهة مرجعياته باشتراطاتها الحادة والمتبدلة حسب سير الأحداث والتطورات الميدانية، أو لجهة طبيعة الخطاب الإعلامي الذي يسعى لتأسيس حضور فاعل ودور مؤثر في مسار الثورة العام، سياسيا وميدانيا واجتماعيا.
والصورة العامة ليست بهذه النصاعة، على الرغم من أن ريادة الظاهرة الإعلامية وأسبقيتها في الظهور في الواقع الجديد. واقع تمرد الشعب السوري على الدولة الأمنية والمافيوية التي أدارها النظام الحاكم طوال ما يزيد على خمسة عقود. لكن "ظاهرة" إعلام الثورة الجديد التي نشأت أصلا على هامش ظواهر شهود العيان ومحللي ومداخلي القنوات الفضائية، سرعان ما خسرت زمام المبادرة، لصالح القوى والتشكيلات العسكرية التي تكونت لاحقا، ووقعت تحت سيطرة قادة الكتائب والألوية، ليعاد بذلك ارتهان الإعلام السوري، بنسخته الجديدة، إلى القوى الجديدة المتنفذة من عناصر وضباط الجيش السوري الحر، ولاحقا التشكيلات الإسلامية بتوجهاتها المتعددة.
وعبر السنوات الأربع الماضية، لم تتكون أية بنية إعلامية صلبة، أو إطار إعلامي يحدد الظاهرة الإعلامية الجديدة، التي تبدو ظاهرة انفلاشية ومتبدلة إلى مدى كبير، وذهبت أدراج الرياح كل المحاولات التي قام بها أفراد وجماعات ومؤسسات، بينهم صحافيون وإعلاميون حرفيون ممن انشقوا عن المؤسسات الإعلامية والصحافية السورية الرسمية، لتوليف ميثاق عمل صحافي يرتقي إلى حجم المأساة السورية من دون الإخلال بالمعايير والضوابط الإعلامية الأولية.
ويمكن بطبيعة الحال إرجاع هذا الفشل إلى ظروف موضوعية ناتجة عن ظروف الحرب وخطة النظام السوري الأمنية والعسكرية التي قطعت أوصال البلاد وحولت مدنها وقرى إلى جزر معزولة، إضافة إلى التناحر وتصادم المصالح بين القوى والتشكيلات العسكرية بمختلف أنواعها ومرجعياتها الأيديولوجية والعقائدية الدينية.
لقد نتج واقع "إعلامي" جديد عن تسلح الثورة السورية، تحولت من جرائه الظاهرة الإعلامية للثورة السورية إلى ظاهرة ذيلية لظاهرة العسكرة، ما كان من شأنه إعادة إنتاج الإعلام السوري كأداة دعائية تشكل فيه البروباغندا العنوان والحامل الرئيسين، حيث لكل فصيل مقاتل منصته الإعلامية التي لا تختلف بكثير أو بقليل عن الإعلام السوري الرسمي الذي اُختزل طوال عقود إلى خطاب مقولب يمجد القائد والحزب و"منجزاتهما التاريخية".
وتكاد تكون الفوضى العارمة التي نتجت عن الحرب تعادل وتكافئ "النظام" الصارم والمتمكن، فإذا كان النظام السوري قد انتهج سياسة تكميم الأفواه وقمع الحريات، بما في ذلك زج الصحافيين والإعلاميين في السجون لمجرد إبداء آرائهم أو مخالفتهم وتجاوزهم للتعليمات والسياسات (الشفهية غالبا) العامة، فإن قادة الكتائب والألوية المسيطرة في مختلف المناطق السورية لن يتوانوا عن معاقبة وقمع "الإعلاميين الجدد" الذين يتجرأون على تجاوزهم وانتقادهم.
وما حصل مع الإعلامي المعروف بـ "أبو عبدو الرستن" قبل شهور، يندرج في هذا السياق، سياق تداخل وتصادم السلطة العسكرية بحكم الواقع مع "الظاهرة الإعلامية الجديدة"، أو السلطة الرابعة مجازا مكرسا، حين قام قائد أحد الألوية المحلية من أبناء بلدته بقطع أصابعه بالفأس، وفي الساحة العامة، عقابا على عدم امتثاله لتعليمات قائد لواء خالد بن الوليد المدعو بحسن الأشتر، الذي أعدمته "جبهة النصرة" لاحقا، والتي بدورها لن تقبل بأي حضور إعلامي يناقض أو ينتقد سياستها العامة في المناطق التي تسيطر عليها.
ويلاحظ المتابع لسيل الأخبار والشرائط المصورة الواردة من مختلف المناطق السورية، تبدل لهجة "الإعلاميين" ومفردات قواميس خطاباتهم بتبدل القوى العسكرية المسيطرة، نتيجة "التحرير" أو "الانسحاب التكتيكي" لهذه المجموعة أو تلك.
وإعلام مؤسسات الثورة في الخارج ليس أفضل حالا، رغم تمتعه بـ "المظلات الديمقراطية" واتساع هوامش حريات التعبير، لكنه في معظمه محكوم ومرتهن لأجندات شخصية وجماعية لا تغيب عنها أبعاد التمويل والدعم السياسي والتقارب الأيديولوجي، إقليميا ودوليا. والإعلام هنا هو للمرة الثانية ظاهرة ذيلية لظاهرة التشكيلات السياسية المعارضة الجديدة.
ورغم هجرة الكثير من الإعلاميين والصحافيين المحترفين إلى القارتين الأوروبية والأميركية، وبينهم "إعلاميون جدد"، فلا تبدو في الأفق أية بارقة أمل لتشكل منصة إعلامية تستفيد من سقف الحريات المرتفع في تلك البلدان، وهذا يحيل إلى سؤال عميق حول تفسير هذه الظاهرة. وقد تكون إحالة الجواب على هذا السؤال إلى خلل يكاد يكون بنيويا، نشأ في الإعلام السوري وارتحل معه إلى المهاجر. وهذا الخلل يكمن في ضرورة توافر "الراعي" ودعمه ومغازلته.
ويمكن في هذا السياق، أن نستذكر محاولة أحد الصحافيين السوريين، الذين لجؤوا إلى الولايات المتحدة، بإنشاء مجلة توقفت بعد العدد الأول، لدرجة بدا معها أن الإصدار الوحيد كان بمثابة تقديم أوراق اعتماد لمن له مصلحة. الصحافي نفسه كان يرأس تحرير مجلة سورية شهرية قبل اندلاع الثورة، وبالتعاون مع سيدة القصر الجمهوري أسماء الأسد، ولكنه فشل في أميركا بإصدار مطبوعة صحافية لعدم وجود "الراعي".
وعدم وجود الراعي، الذي يمكن أن يكون ممولا سوريا مغتربا، أو تكتلا سوريا ناشطا، دفعه إلى محاولة مغازلة الأميركيين مباشرة، عندما قاد حملة على صفحته على موقع "فيسبوك" بعنوان: "أنا يهودي من يبرود". وذلك من منطلق قناعة ساذجة ومبتسرة تفيد أن اليهود مسيطرون على الإعلام الأميركي.
إعلام الثورة السورية.. يمكن اختزاله (في العمق) بالقول: "لا جديد على الجبهة السورية!".
(سورية)