والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يقع سكان الإقليمين في فخ أقليم دونباس الأوكراني، ويتحولون مع حلمهم الاستقلالي إلى ورقة ساخنة وربما محروقة، أم يركبون حافلة المركز في طريق عسير نحو أوروبا؟ علماً أن موسكو تمدهم باللقمة حيناً، وبوهم القوة حيناً آخر، ما يصعّب خياراتهم، وربما يؤجج الصراع، ويطيله.
غاغاوزيا تستفيق
ما إن صادق البرلمان المولدوفي، في الثاني من يوليو/ تموز الجاري، على الشراكة الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي الموقعة في 27 يونيو/ حزيران، حتى وجد شعب الغاغاوز نفسه في قلب الصراع من جديد.
ففي حين احتفل أنصار التكامل الأوروبي بالاتفاقية مع أوروبا في ساحة البرلمان، أحيل بعض معارضي هذه الاتفاقية إلى القضاء، بتهمة القيام بأنشطة "غير دستورية"؛ من بين هؤلاء رئيس إدارة غاغاوزيا ذات الحكم الذاتي، عضو حكومة مولدوفا، ميخائيل فورموزال، كما جاء في صحيفة "بانوراما" المولدوفية.
وفي هذا الشأن، قال فورموزال: "أنا مع الحفاظ على وحدة البلاد، وضد انضمام مولدوفا إلى رومانيا، وكذلك أنا مع التفكير بالانضمام للاتحاد الجمركي، والحفاظ على العلاقات مع روسيا"، وأضاف: "فكرة ضم مولدوفا إلى رومانيا، يؤيدها علناً رئيس البلاد، نيقولاي تيموفتي. ويتهموننا بالميل إلى روسيا. فكيف لنا أن نكون غير ذلك، وجميع منتجاتنا من النبيذ والفواكه والخضار تباع في روسيا، وغيرها من بلدان الاتحاد الجمركي. ومنطقتنا ذات الحكم الذاتي تعيش بفضل ذلك. ولذلك، وقفنا ضد الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. ناهيكم بالتاريخ الذي يربطنا مع روسيا"، ذلك ما نقله عن فورموزال موقع "ng.ru".
يشار إلى أن فورموزال يعد زعيماً لمناهضي التكامل الأوروبي في جمهورية مولدوفا (مولدافيا الاشتراكية السابقة). وكان قد بادر إلى إجراء استفتاء، تم بنجاح، في الثاني من فبراير/ شباط 2014، في غاغاوزيا حول السياسة الخارجية التي تنتهجها مولدوفا، وتأجيل إعلان استقلال غاغاوزيا.
بلغت درجة الإقبال على الاستفتاء، وفقاً لصحيفة "فزغلاد"، 70.42 بالمئة من السكان، وقد صوّت 98.47 بالمئة منهم لانضمام مولدوفا إلى الاتحاد الجمركي، مقابل 2.77 بالمئة صوتوا للتكامل مع الاتحاد الأوروبي. والأهم من ذلك، أن 98.9 بالمئة ممّن شاركوا في الاستفتاء، صوتوا لإعلان الاستقلال عن كيشنيوف، في حال فقدت مولدوفا كيان الدولة (أي في حال انضمت إلى رومانيا)".
ونقل موقع "ng.ru" عن فورموزال، قوله: "يصنعون اليوم في مولدوفا صورة عدو من بريدنيستروفيه وغاغاوزيا". وأضاف: "الوضع خطير ويذكّر بأوكرانيا. وهناك مخاطر من أن يفعلوا بغاغاوزيا ما يفعلونه الآن في دونباس".
وقد أكد مخاوف فورموزال القائم بأعمال مدير أمن المعلومات السابق في كيشنيوف، فالنتين ديديو. فقد أعلن على هواء قناة Publika.TV، قائلاً: "المخاطر التي قد تحدث، هي الانفصال والفيدرالية. وكأصحاب نزعة انفصالية لدينا بريدنيستروفيه وغاغاوزيا".
إجراء احتياطي
على ضوء الدروس المستقاة من التجربة الأوكرانية، وتحسباً من تمرد اجتماعي محتمل، بعد توقيع الشراكة الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، قررت السلطات المولدوفية قطع الطريق على الإعلام الروسي، فحظرت بث قناة "روسيا-24" في البلاد، بتهمة ممارسة الدعاية والتغطية غير النزيهة للأحداث في أوكرانيا.
وبدءاً من الرابع من يوليو/ تموز، وحتى الأول من يناير/ كانون الثاني 2015، يعدّ بث هذه القناة على الأراضي المولدوفية غير شرعي. وبالنتيجة، توقفت القناة المعاقبة عن البث، ولكن ليس على كامل الأراضي المولدوفية، فهي لا تزال تعمل على أراضي غاغاوزيا، إذ إن قراراً من هذا النوع يعدّ من صلاحيات السلطات المحلية وليس المركز، كما يقول موقع "odnako.org".
الجدير بالذكر أن غاغاوزيا تقع غرب مولدوفا، على شكل قوس، على الحدود مع أوكرانيا، وهي في عداد مولدوفا منذ نحو 200 عام، ويبلغ عدد سكانها من شعب الغاغاوز 150 ألف نسمة، وهم يتحدثون اللغة الغاغاوزية (تركية)، ويدينون بالمسيحية الأرثوذكسية، وكانوا قد فروا من البلقان من بطش العثمانين، وحافظوا في مكان عيشهم الحالي على لغتهم وثقافتهم. وقد حظيت هذه المنطقة بالحكم الذاتي في عام 1994، حينما صوّت البرلمان المولدوفي على قانون ينص على خصوصيتها، بعد صراع في نهاية العهد السوفييتي، حاول فيه الغاغاوز إعلان استقلالهم، كما حاولت كيشنيوف سحقهم عام 1990، إلى أن سيطر الجيش السوفييتي، الذي كان لا يزال قائماً، على الوضع.
وينص القانون، الذي اعتمده البرلمان المولدوفي في حينه، على حقهم بتقرير مصيرهم، في حال إلغاء كيان الدولة المولدوفية.
بريدنيستروفيه: محمية موسكو
في 22 يوليو الجاري، نقلت وكالة "إيتار تاس"، استناداً إلى مصدر عسكري دبلوماسي مقرّب من أوساط المفاوضات حول تسوية الأزمة في بريدنيستروفيه، أن السلطات الأوكرانية عازمة على إعادة النظر باتفاقها مع روسيا، حول شروط وجود قوات حفظ السلام الروسية في بريدنيستروفيه، وتحقيق انسحابها من منطقة الصراع من خلال ذلك.
وقالت "إيتار تاس" إن "الحديث يدور عن وثيقتين: الاتفاق على تنظيم النقل العسكري بين الدول وحساباته، والاتفاق على مرور التشكيلات العسكرية الروسية المتمركزة مؤقتاً على أراضي مولدوفا عبر أراضي أوكرانيا".
تنوي أوكرانيا إلغاء الاتفاقيتين بعد إلغاء روسيا، من طرف واحد، في أبريل/ نيسان الماضي، الاتفاقيات الأربع المبرمة مع أوكرانيا حول أسطول البحر الأسود. علماً بأن المفاوضات لحل هذا النزاع تجري وفق صيغة (5+2) (مولدوفا، بريدنيستروفيه، روسيا، أوكرانيا، منظمة الأمن والتعاون الأوربي، ومراقبين عن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية).
الجدير بالذكر أن نسبة الروس والأوكرانيين بين سكان جمهورية بريدنيستروفيه المولدوفية تبلغ 60 بالمئة، وقد تمكنت هذه الجمهورية من إقرار حقها بالخروج من كيان مولدوفا حين كان الاتحاد السوفييتي لا يزال قائماً.
وبنتيجة الاستفتاء الشعبي في العام 1989، والتظاهرات الشعبية في عام 1990، جرى إعلان بيردنيستروفيه جمهورية مستقلة في 2 سبتمبر/ أيلول 1990. وإلى اليوم، تحافظ على الأمن هناك قوات حفظ سلام دولية. لكن تيراسبول، عاصمة بريدنيستروفيه، تطالب باعتراف دولي، مقابل مطالبة كيشنيوف بإبقائها منطقة ذات إدارة ذاتية في عداد مولدوفا.
تتألف قوات حفظ السلام في بريدنيستروفيه من 402 روسياً، و355 مولدوفياً، و492 بيردنيستروفياً، و10 ضباط مراقبين من أوكرانيا. وقد أرسل الجنود الروس إلى هناك عام 1992، لوقف الحرب الأهلية التي سقط خلالها أكثر من ألف قتيل وعشرات آلاف الجرحى والمهجرين. ومنذ ذلك الحين لم تسجل أية أعمال عنف في الإقليم، ما منح سلطات كيشنيوف وتيراسبول إمكانية إجراء مفاوضات لتسوية النزاع سلمياً.
تقرير مصير
كانت زيارة نائب رئيس الحكومة الروسية، دميتري روغوزين، الإشكالية إلى بريدنيستروفيه، في مايو/ أيار الماضي، على خلفية الاحتفال بأعياد النصر على ألمانيا النازية، قد أثارت الحديث عن تواقيع جلبها معه تطالب بالانضمام إلى روسيا، الأمر الذي نشره على "تويتر" دميتري لوسكوف، مساعد روغوزين، في 11 مايو/ أيار.
وتحسباً لمضاعفات الشراكة الاقتصادية بين كيشنيوف والاتحاد الأوروبي، على اقتصاد بريدنيستروفيه، نقلت وكالة "ريا نوفوستي" عن روغوزين قوله، في 2 يوليو، إن "روسيا ستساند هذه الجمهورية لضمان مستوى حياة لائق لسكانها"، ما يعني أن الشراكة ستعمّق انفصالها عن مولدوفا. كما نشرت صحيفة "كوميرسانت"، في اليوم نفسه، أن الحكومة الروسية الفيدرالية وقّعت 7 اتفاقيات مع بريدنيستروفيه، أبرمت جميعها في موسكو بوجود نائب رئيس الحكومة الروسية، ديمتري روغوزين، ورئيس جمهورية بريدنيستروفيه غير المعترف بها، يفغيني شيفتشوك. والحديث يدور عن اتفاقات في مجالات الاقتصاد والصناعة، والنقل والزراعة، ومنع الاحتكار والتعليم، والعلم والثقافة، بين موسكو وتيراسبول.
وفي ما يبدو أنه ورقة قابلة للتصعيد، يجري الحديث، في الأوساط الروسية، عن أن الغالبية في مولدوفا ضد التكامل مع أوروبا، وأن الانتخابات البرلمانية المقبلة قد تأتي بنواب يطالبون بإلغاء الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي، أي العودة إلى نقطة الصفر، فتعود الأزمة إلى سيرتها الأولى.