في بيان صدر اليوم عن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، قررت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ضم القنصلية الأميركية القائمة في القدس الشرقية إلى السفارة التي نقلتها واشنطن مؤخرًا إلى المدينة المحتلة، بعد 70 سنة من عمل القنصلية بصورة مستقلة كمكتب منفصل معني بالشؤون الفلسطينية ومرتبط مباشرة بوزير الخارجية في واشنطن.
وكان التدبير السابق يرمز إلى اعتراف ضمني بوجود هوية فلسطينية يقتضي التعامل معها بصورة منفصلة من خلال هيئة دبلوماسية خاصة. وبذلك صارت القنصلية "وحدة مختصة بالأمور والمعاملات الفلسطينية داخل السفارة في القدس". وتندرج هذه الخطوة في سياق التوجه الذي اعتمدته الإدارة لشطب الخصوصية الفلسطينية، الذي بدأ الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ثم نقل السفارة إليها، وما تبع ذلك من وقف للمساعدات للسلطة الفلسطينية، وقطع التمويل عن وكالة "أونروا"، في محاولة لشطب قضية اللاجئين ومن ثم حق العودة.
ويبدو أن ضم القنصلية جاء رداً على تصويت الجمعية العمومية للأمم المتحدة يوم الثلاثاء الماضي على قرار يجيز للسلطة الفلسطينية ترؤس مجموعة الـ77 من البلدان النامية مع الصين، لعام 2019. والمعروف أن هذه المجموعة التي تمثل معظم سكان العالم، التي حلت مكان ما كان تعرف بدول عدم الانحياز، تتابع القضايا التي تهمها وتتصل بمصالحها المشتركة مثل موضوع الاحتباس الحراري. وبذلك فهي تمثل، عدا عن وزنها البشري، صوتاً وازناً عندما تلتقي حول مصالح وقضايا ذات شأن دولي. ومن ثم فإن منح موقع قيادي فيه لفلسطين كدولة مراقب في الأمم المتحدة، يعزز ويرسخ التعامل الدولي مع فلسطين كمشروع دولة قادمة. الأمر الذي لا تستسيغه إسرائيل، الذي ردت عليه إدارة ترامب بإجراء دمج القنصلية بالسفارة.
وفي هذا السياق، رفضت وزارة الخارجية الأميركية، أمس الأربعاء، طلباً للسلطة الفلسطينية بنقل عدد من موظفي بعثتها (2 أو 3)، التي أقفلتها الإدارة قبل أيام، إلى مكتب الجامعة العربية في واشنطن. وهو إجراء سبق أن جرى اللجوء إليه بغرض الاحتفاظ بوجود رمزي للسلطة الفلسطينية في واشنطن، حتى ولو من دون ممارسة أي مهام رسمية. لكن حتى مثل هذا الوجود الرمزي ممنوع في هذا الزمن، الذي يشير فيه المستشار جون بولتون إلى السلطة الفلسطينية بعبارة "ما تسمى بدولة فلسطين".
ولا تندرج خطوة القنصلية في إطار رد الفعل فقط، بل هي أيضاً حلقة ربما أخيرة في توجه ممنهج جرى وضعه موضع التنفيذ مع تعيين دافيد فريدمان سفيراً لواشنطن في إسرائيل، مع مجيء ترامب. فليس سراً أنه أشرف، من موقع الالتزام والتنسيق الكامل مع بنيامين نتنياهو، على هندسة كل الخطوات التي تهدف إلى محو الشخصية السياسية الفلسطينية عن الخريطة.
فهو من البداية يتصرف كوزير ليكودي إسرائيلي، يمارس عمله وكأنه صاحب القرار في ممارسة دوره. يقوم بمهمته "كسفير المستوطنات"، كما يجري تلقيبه. يتحرك كمن يعد نفسه مرجعية في تقرير الخطوات والتدابير الموجهة ضد الفلسطينيين. ولم يتردد مرة في توجيه انتقادات لاذعة لوسائل الإعلام الأميركية، التي قال إنه من الأفضل لها "أن تخرس"، بزعم أن تغطيتها لأحداث غزة في الربيع الماضي كانت "منحازة ضد إسرائيل". كما هاجم الحزب الديمقراطي لتقصيره، مقارنة بالحزب الجمهوري، في الالتفاف حول إسرائيل أثناء تلك الأحداث. تماديه حمل مرة مراسل "أسوشيتد برس" على التساؤل أثناء اللقاء الصحافي اليومي في وزارة الخارجية، حول ما إذا كان هذا السفير "يمثل نفسه أو يمثل واشنطن؟". في زمن من هذا النوع لم تعد خطوة القنصلية الكيدية مفاجِئة.