صفحة من يوميات الغريب
في الصيف تخلو شجرة النارنج من نارنجها
ثمة حبل يتدلّى من أحد الأغصان تحرّكه الرياح البطيئة قليلًا
لا نفع له.
أنا هذا الحبل بهيئة رجل يسند ظهره على حائط.
لقد ترك الشتاء على باب البيت كدمات من البرد، تسألني أمي أن أصبغ الباب بطلاء مضاد للصدأ. في يدي جرح قديم تراه أمي، تسألني أن أترك الباب وأقصد المشفى
- يا أمي لن أفعل من ذلك شيئًا، لا أحب تغليف العفن.
سأخرج غدًا
وأحمل معي حقيبة تملأ جوفها كتبًا،
لن أقرأ سطرًا،
في هذه الصفحات مدن وأشخاص أحتاجهم قربي
هم غرباء يدفّئون وحدتي.
أمس، كنت أستحم وأستيقظ بين يدي طفل، كان يبكي ولم يكن لدي مهد لأضعه فيه. سألت زميلًا لي وقال استأجر واحدًا، لم أفعل. أردت أن أملك واحدًا، ولم أجد من تضع مهدها في حضن الغريب.
هذا الصباح، نظرت في المرآة لأرى نفسي، أردت أن أسأل الصورة ثم تذكرت أن لا لسان لها، لها تفاصيل تشكل قصة، من يملك العين العميقة كالبئر يقرأها:
لوح خزف زجاجي محدب، صقيل بما يكفي ليشتت الوجود إلى أشعة متناثرة. لا لون له، وتملؤه تعرجات الكون، طرقات نافرة تمر نحو الظلام بأطراف قوسه العلوي، وبئران ضحلتان لا دلو يدخلهما، فماؤهما مالح ومحيطهما مهجور، به كهف كبير افترش ببساط متعرج يشبه ظهري، لم يخرج ذات يوم منه كائن حقيقي، سوى أشباح أسميها شخوص قصائدي.
رحلة الغريب
إلى أين تمضي فكرتك الخاطئة؟
على طرق معبدة يسير الصواب، وحيدًا أو ترافقه الأسئلة. لكنك، تشق طريقًا جديدة أيها الغريب، لتمشي عليها فكرتك. هنيئًا لقد خلقت عرقًا في رأسك، تسير به الدماء المسمومة.
لكن إلى أين تسير هذي الدماء؟
أحدّق في الحائط وأطلق كلمات طائشة، يرد الحائط الكلمات إلى فمي وأختنق، أصرخ من شرفتي، فأرى الرياح تبدد الصرخة، ولا تذر منها نغمة صدىً واحدة لأقتفي بها الطريق. الفكرة انطلقت في طريقها الجديدة ولا أعرف أعتابها، دلني أود أن أمشي بهذا العرق وأتسمم في دمه.
في الممرات المعبدة جادات ضيقة تتصعلك فيها القصائد، وترسم على جدرانها المتسخة لوحات رسامين يدخنون الحشيش ويشربون الماء من قعر أخضر.
أسألُ عجوزًا صنع من آلة تيشلو محطمة صندوقًا لصبغ الأحذية:
عمت صباحًا يا جدي، هلا تدلني على الطريق الجديدة؟
يقول ويرافق القول سعال:
أنت تقف في قلبها الآن، بعيدًا عني، فلا صباح قربي، ولست جَدًا لأحد. من عندك ترى في عينيَّ البصر، أما أنا فأعمى، يرى الأحذية جلود خنازير مريضة، جاءت تطلب التسلية. لو لم تتحدث لدبغتك، وطليت جلدك بلون الموت الزاهي.
- وما لون الموت الزاهي؟
- لا أعرف، أنا أسمي الألوان بجوهرها، أنا أعمى لا أرى الشكل، انظرْ أنت وسمه لنفسك، الألوان لا تتوجها الأسامي.
في نهاية الجادة طفلان يتفقان على اللعب، يقول أحدهما:
سأتعرى وصف لي شكل ردائي.
يقول الآخر:
إنها لعبة قديمة، أقدم من الصواب، صف لي العري بعينين مغمضتين، كيف شكل العري من دون رداء.
أغنية الوداع
1
لا أعرف الشمس
لا ضوءها الذي طلى نصفي ذراعيَّ بالسمرة
ولا عجزها الشتوي
تحت لهيبها سرت واحدًا وعشرين عامًا ولم أعرف
لا أعرف صاحب الصورة المعلقة في غرفة أبي
رغم أنهم يقولون هذا ما كنت عليه.
منذ عامين وأنا أصغي لقداس جنائزي لموزارت وأبكي
عامان أبكي ولا أعرف السبب
لا أعرف اللغة ولا الأنغام
ولا موزارت الذي شاهدت حياته تنكمش على مائدة بلياردو،
وهو يكتب مرثيته اللعينة.
يبدو أنني لا أعرف شيئًا، فاسألي غيري؛
أوهمته الحياة بالمعرفة فصار واثقًا مما تهيأ له.
2
كنت أعرفك؛
كما يعرف الله فجره الأول لما لمع فولد على المرج الأخضر آدم عاريًا كحقيقة مطلقة.
كنت أجمع الهواء الذي تنفثينه بغيوم واطئة، كلما اشتدّ حزن السماء حرستني من دموعها.
وكنت أعرف أيضًا المسافة بين التواء رقبتك وهاوية الوسادة فأمد يدي في الحلم وألتقط رأسك العفوي..
لكنك الآن تمشين في طريق لم يُرسم على خرائطي،
طريق لا أراك فيه ولا تصله يدي إذا ما داهمك النوم وتعثرتِ بوسادة صلدة.
3
الحيرة لا تقتل المسافة، تضاعفها بالجيئة والذهاب حتى تقطع قدميك.
لقد خسرتُ كثيرًا حتى صرتِ كل ما أملك
وها أنت ترحلين الآن..
الأمر ليس كبيرًا كما تتصورين، هل تذكرين الجريح الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة بحضن صاحبه، لم يكن في تلك اللحظة خائفًا من الموت، لكن كل ما تبقى له: لحظة وداع وهنة، لقد صدق ذلك وانتهى الأمر، هو فقط يترك صورة أخيرة خلفه، ليبدأ من جديد في عالم آخر.
تبقت لك بضع خطوات ليكتمل طريقك، اقطعيها بسرعة رصاصة الرحمة، وأنا سأنتظرك تعبرين لأنهي هذه القصيدة.
قارب النجاة المثقوب
يفرش الهارب الأرض لينتقي منها حقيبة:
خبزًا، ثلاثة قمصان، بنطالين، حذاءً، علبتين كبيرتين من المناديل الورقية، وصية قبل الموت وكاميرا.
يفرش الهارب الأرض ليودع ما لا تسعه الحقيبة:
سلام على الأرجوحة والمكتبة والمقهى المهدد ونخلة الجيران.
سلام على أصدقاء السوء، علب سجائرهم المخبأة بالجوارب، وزجاجات الخمور على سطوح بيوتهم.
سلام على أمي ودموعها وأثوابها وفاصوليائها البيضاء المطبوخة بالطماطم واللحم، ونومها القلق، وحنجرتها المبحوحة من التوبيخ والبكاء.
سلام على أبي، وسراويله الداخلية التي لا يلبس غيرها صيفًا، وكيس دوائه، وعاطفته الغامرة.
يفرش الهارب البحر ليمشي عليه:
أنا أحوج من موسى بمعجزة يا رب..
انا جنين بين أجنة الحرب التي تقذفها المدن
أنا الجنين الذي لم يعش ولم يمت، وكأنك يا رب لا تُميتُ ولا تُحيي،
أنا الصورة التي سترسلها الأجنة إلى التراب بعد أن يبتلوا،
أنا نعي لكينونتك على مسرح الغرق.
يفرش الهارب الساحل ليصور ما عليه:
هذا النعل الصغير يصفع العالم
هذه الأيدي الناعمة أكثر ملوحة من البحر
هذا رمادكم يا حطابي الحرب.. ينفخه بوجوههم:
لتدم رائحة الزبد في ذرى الرماد، لزجًا احمليه أيتها الريح، وانثريه في العيون عدسة رصاصية لاصقة. ليكون العالم حقيقيًا:
يشبه أفق الماء حين العاصفة
يشبه الساحل الذي لا يصل
يشبه الساحل الذي يصل متأخرًا
يشبه الساحل الذي يلتقف الأطفال
يشبه الساحل الذي يشرب الماء ولا يبكي
يشبه الساحل الذي نبكي عليه ولا يبكي
يشبه الساحل الذي نبكيه ولا يقترب
يشبه الساحل الذي يقترب حين نموت.
يفرش الهارب الأرض ويجلس بجانبها:
نجسة أطرافك التي تمحو فقاقيع الغرق
نجسة أطرافك التي لا تحنِّي الموت بالدماء
نجسة أطرافك وباردة مهما احتضنت
نجسة أطرافك ونتنة، وسأحمل هذه الرائحة في أنفي إلى الأبد.
• شاعر من العراق، مواليد 1993. القصائد من مجموعته الجديدة "عالم الغريب"