14 نوفمبر 2024
إلى أين يتجه الرئيس محمود عباس؟
نقدّر صراحة الرئيس محمود عباس الصادمة للجمهور العربي والفلسطيني، ونعرف موقفه الذي نختلف معه فيه عن الانتفاضة الكارثة، والصواريخ العبثية، وعدم جدوى العنف، وانعدام البديل للمفاوضات غير المفاوضات نفسها، وانتظار الجار الإسرائيلي، بغض النظر عن الزمن وابتلاع الأرض واستمرار الاحتلال، حتى يكون جاهزاً للمفاوضات. إلّا أنّ ما سمعناه، في الأيام القليلة الماضية، خلال لقاء الرئيس مع إحدى قنوات التلفزيون الإسرائيلي، تجاوز مواقف الرئيس السابقة، ويفوق كل مخيلةٍ، مهما شطّت في جموحها، ويضرب عرض الحائط بكل أملٍ للجمهور بتصحيح المسار الفلسطيني وتصويبه.
كان من المتوقع، والانتفاضة قد دخلت شهرها السادس، أن يتصلب موقف السلطة الوطنية الفلسطينية، وأن تتشدّد في مواقفها، وأن تُعبر عن أماني شعبها وتطلعاته، كيف لا وقد أعرب جيلٌ كامل عن غضبه من السياسات المتبعة أكثر من ربع قرن، وهبّ ساعياً، بدمائه، إلى أن يندحر الاحتلال، إلّا أنّ ما شهدناه تجاوز المعقول، وتحدّى المنطق، وقلب كل المفاهيم، بما فيها التي روّجها الرئيس ومستشاروه طوال العقد الماضي.
قيل لنا إنّ لا عودة للمفاوضات، إلّا بإطلاق الدفعة الأخيرة من أسرى اتفاقٍ سابق، وبأن يتم تجميد الاستيطان، وأن تعيد الدول الراعية للمفاوضات صوغ مبادئها، وتحدّد جدولاً زمنياً لها، وذهب بعضهم إلى حد أن يتم ذلك عبر قرار جديد لمجلس الأمن، أو من خلال مؤتمر دولي. هكذا كان الموقف الفلسطيني الرسمي على ضعفه. لكن كل هذه النقاط مُسحت في لقاء الرئيس عباس، أخيراً، مع القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي. أصبح الرئيس، فجأةً، يرغب ويلحّ في لقاء نتنياهو، بل ويبشرنا بأنّه قادر وفي جلسة واحدة "على حل جميع الخلافات مع نتنياهو".
لماذا انتظرنا ربع قرن، يا سيادة الرئيس، ما دمتَ تمتلك مثل هذه القدرة السحرية على حل الخلافات كلها في جلسة واحدة؟ هل هذا اعترافٌ بفشل فريق المفاوضات، وترقب لنجاح أفكارٍ ما لم يُعلمنا الرئيس بها بعد؟ أم أنّ ثمّة تغييراً مفاجئاً في موقف نتنياهو سيجعله يرضخ للمطالب الفلسطينية في جلسة واحدة؟ أم هناك قبولٌ بالمواقف الإسرائيلية ورضوخٌ لها؟ أو هو الخوف المشترك من تصاعد الانتفاضة وامتدادها؟.
يطالب الرئيس بمنحه فترة اختبار قصيرة أسبوعاً لا غير، يتركه فيها الإسرائيليون لتحمل
مسؤولياته، تنسحب فيها القوات الإسرائيلية من مناطق ألف، والتي تشكل 18% فقط من مساحة الضفة الغربية، وتشمل أجزاء من المدن الفلسطينية، وإذا لم ينجح خلال هذه الأيام بإنهاء "أعمال العنف"، فإنّه يقول لهم "عودوا واحتلوها كما شئتم". غريب هذا الانحدار! فبدلاً من المطالبة بانسحاب الاحتلال من كل الأرض المحتلة شرطاً لإعادة الهدوء، نطالب بانسحابه أياماً معدودة فقط على 18% من الأرض، ونبرّر له، من حيث ندري أو لا ندري، اجتياحه هذه المناطق سابقاً ولاحقًا.
يبدو أنّ ثمّة اعترافاً ما بتبرير الاحتلال، ويتجلى ذلك في ما قاله عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، محمد المدني، بعد قيامه "بواجب التعزية" في الجنرال منير عمر، إذ اعتبره مسؤولاً في الإدارة المدنية الإسرائيلية للضفة الغربية، نافياً عن الجنرال صفته العسكرية، ومتناسياً أنّ ما تطلق عليه إسرائيل الإدارة المدنيه هو الحكم العسكري الإسرائيلي المباشر الذي يدير شؤون الضفة الغربية المحتلة، وكل موظفيها ضباط في جيش الاحتلال، وينفذون سياساته. والأدهى تفسير العزاء في أرفع ضابط درزي في جيش الاحتلال بأنّه لتعزيز الروابط مع إخوتنا في الطائفة الدرزية، متناسياً آلاف الشبان الدروز الذين ينظمون فعالياتٍ يوميةً لرفض الخدمة في جيش الاحتلال، ورفض سلخ الدروز عن إخوتهم من عرب فلسطين.
أمّا التنسيق الأمني، والذي خرج علينا كثيرون من الناطقين الرسميين، بأنّه تنسيق لخدمة الشؤون الحياتية اليومية للمواطن الفلسطيني، فإنّ الرئيس يقطع قول كل خطيبٍ، بتشديده على التمسك به، باعتبار أنّ "البديل سيكون الفوضى، ووصول سلاح ومتفجرات ومسلحين سيأتون من كل مكانٍ ليدخلوا إسرائيل، أنا (أي الرئيس) أضع يدي عليهم، ولو لم يكن هناك تعاون أمني فلسطيني إسرائيلي، ستكون هنالك انتفاضة دامية". فهل، بعد هذا القول، ثمّة من ينكر مرامي التنسيق الأمني وغاياته.
يقول السيد الرئيس إنّ الأمن الفلسطيني يفتش حقائب طالبات المدارس وطالباتها، في مدارسهم وفي الشوارع، وأنّه في مدرسة واحدة عثر على 70 سكيناً. تساءلت كثيراً لماذا هذا التصريح؟ ومن أشار على الرئيس به؟ وما الهدف منه؟ خصوصاً أنّه يأتي، بعد نشر شريط إعدام الشهيد عبد الفتاح الشريف بدم بارد، على يد أحد الجنود الصهاينة. وجود 70 سكيناً في مدرسة واحدة يعني، بحسبةٍ بسيطةٍ، أنّ آلاف السكاكين مخبأة في حقائب الطالبات والطلاب الذين يمرّون يومياً عبر الحواجز الإسرائيلية، وهي إذا كانت فعلاً منتشرة على هذا النحو، فهذا بمثابة اعترافٍ بفشلٍ ذريعٍ لسياسة السلطة الفلسطينية ونهجها، وتأكيد على عزم جيل الشباب على سلوك طريقٍ مغاير تمامًا. لكن، ألا يخشى أيضاً أن تكون هذه التصريحات للتلفزيون الإسرائيلي بمثابة تبريرٍ لإعدام هؤلاء الطلاب على حواجز الاحتلال، وبأيدي جنوده، باعتبار أنّ كل حقيبة مدرسية مشبوهة، تحمل الموت في داخلها للجنود والمستوطنين الصهاينة.
يحذّر الرئيس من احتمالات انهيار السلطة الفلسطينية، بل ويقول إنّها "على وشك الانهيار"، من دون أن يحدد سبباً لذلك، لكنّ السياق يحملنا على الاعتقاد أنّه، وبدلاً من اعتبار الانتفاضة رافعةً للنضال الفلسطيني، يستند إليها، فإنّه ربّما يعتبرها سبباً في التعجيل بهذا الانهيار الوشيك. وهنا نعود إلى رسالة القيادي الفتحاوي، مروان البرغوثي، من خلف قضبان السجن الإسرائيلي، لنكتشف كم كانت دعوته إلى مسار وطني بديل، وبنيةٍ سياسيةٍ شابة، وتجديد الخطاب والبنية في مكانها ووقتها.
يتحمّل الرئيس محمود عباس والسلطة الفلسطينية كامل المسؤولية عن التراجعات المستمرة والمتتالية من هاويةٍ إلى أخرى، إلّا أنّ الفصائل الصامتة، والتي تخلت عن دورها النضالي السابق، تتحمل قسطها من المسؤولية نفسها، والساكت عن الحق شيطانٌ أخرس.
كان من المتوقع، والانتفاضة قد دخلت شهرها السادس، أن يتصلب موقف السلطة الوطنية الفلسطينية، وأن تتشدّد في مواقفها، وأن تُعبر عن أماني شعبها وتطلعاته، كيف لا وقد أعرب جيلٌ كامل عن غضبه من السياسات المتبعة أكثر من ربع قرن، وهبّ ساعياً، بدمائه، إلى أن يندحر الاحتلال، إلّا أنّ ما شهدناه تجاوز المعقول، وتحدّى المنطق، وقلب كل المفاهيم، بما فيها التي روّجها الرئيس ومستشاروه طوال العقد الماضي.
قيل لنا إنّ لا عودة للمفاوضات، إلّا بإطلاق الدفعة الأخيرة من أسرى اتفاقٍ سابق، وبأن يتم تجميد الاستيطان، وأن تعيد الدول الراعية للمفاوضات صوغ مبادئها، وتحدّد جدولاً زمنياً لها، وذهب بعضهم إلى حد أن يتم ذلك عبر قرار جديد لمجلس الأمن، أو من خلال مؤتمر دولي. هكذا كان الموقف الفلسطيني الرسمي على ضعفه. لكن كل هذه النقاط مُسحت في لقاء الرئيس عباس، أخيراً، مع القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي. أصبح الرئيس، فجأةً، يرغب ويلحّ في لقاء نتنياهو، بل ويبشرنا بأنّه قادر وفي جلسة واحدة "على حل جميع الخلافات مع نتنياهو".
لماذا انتظرنا ربع قرن، يا سيادة الرئيس، ما دمتَ تمتلك مثل هذه القدرة السحرية على حل الخلافات كلها في جلسة واحدة؟ هل هذا اعترافٌ بفشل فريق المفاوضات، وترقب لنجاح أفكارٍ ما لم يُعلمنا الرئيس بها بعد؟ أم أنّ ثمّة تغييراً مفاجئاً في موقف نتنياهو سيجعله يرضخ للمطالب الفلسطينية في جلسة واحدة؟ أم هناك قبولٌ بالمواقف الإسرائيلية ورضوخٌ لها؟ أو هو الخوف المشترك من تصاعد الانتفاضة وامتدادها؟.
يطالب الرئيس بمنحه فترة اختبار قصيرة أسبوعاً لا غير، يتركه فيها الإسرائيليون لتحمل
يبدو أنّ ثمّة اعترافاً ما بتبرير الاحتلال، ويتجلى ذلك في ما قاله عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، محمد المدني، بعد قيامه "بواجب التعزية" في الجنرال منير عمر، إذ اعتبره مسؤولاً في الإدارة المدنية الإسرائيلية للضفة الغربية، نافياً عن الجنرال صفته العسكرية، ومتناسياً أنّ ما تطلق عليه إسرائيل الإدارة المدنيه هو الحكم العسكري الإسرائيلي المباشر الذي يدير شؤون الضفة الغربية المحتلة، وكل موظفيها ضباط في جيش الاحتلال، وينفذون سياساته. والأدهى تفسير العزاء في أرفع ضابط درزي في جيش الاحتلال بأنّه لتعزيز الروابط مع إخوتنا في الطائفة الدرزية، متناسياً آلاف الشبان الدروز الذين ينظمون فعالياتٍ يوميةً لرفض الخدمة في جيش الاحتلال، ورفض سلخ الدروز عن إخوتهم من عرب فلسطين.
أمّا التنسيق الأمني، والذي خرج علينا كثيرون من الناطقين الرسميين، بأنّه تنسيق لخدمة الشؤون الحياتية اليومية للمواطن الفلسطيني، فإنّ الرئيس يقطع قول كل خطيبٍ، بتشديده على التمسك به، باعتبار أنّ "البديل سيكون الفوضى، ووصول سلاح ومتفجرات ومسلحين سيأتون من كل مكانٍ ليدخلوا إسرائيل، أنا (أي الرئيس) أضع يدي عليهم، ولو لم يكن هناك تعاون أمني فلسطيني إسرائيلي، ستكون هنالك انتفاضة دامية". فهل، بعد هذا القول، ثمّة من ينكر مرامي التنسيق الأمني وغاياته.
يقول السيد الرئيس إنّ الأمن الفلسطيني يفتش حقائب طالبات المدارس وطالباتها، في مدارسهم وفي الشوارع، وأنّه في مدرسة واحدة عثر على 70 سكيناً. تساءلت كثيراً لماذا هذا التصريح؟ ومن أشار على الرئيس به؟ وما الهدف منه؟ خصوصاً أنّه يأتي، بعد نشر شريط إعدام الشهيد عبد الفتاح الشريف بدم بارد، على يد أحد الجنود الصهاينة. وجود 70 سكيناً في مدرسة واحدة يعني، بحسبةٍ بسيطةٍ، أنّ آلاف السكاكين مخبأة في حقائب الطالبات والطلاب الذين يمرّون يومياً عبر الحواجز الإسرائيلية، وهي إذا كانت فعلاً منتشرة على هذا النحو، فهذا بمثابة اعترافٍ بفشلٍ ذريعٍ لسياسة السلطة الفلسطينية ونهجها، وتأكيد على عزم جيل الشباب على سلوك طريقٍ مغاير تمامًا. لكن، ألا يخشى أيضاً أن تكون هذه التصريحات للتلفزيون الإسرائيلي بمثابة تبريرٍ لإعدام هؤلاء الطلاب على حواجز الاحتلال، وبأيدي جنوده، باعتبار أنّ كل حقيبة مدرسية مشبوهة، تحمل الموت في داخلها للجنود والمستوطنين الصهاينة.
يحذّر الرئيس من احتمالات انهيار السلطة الفلسطينية، بل ويقول إنّها "على وشك الانهيار"، من دون أن يحدد سبباً لذلك، لكنّ السياق يحملنا على الاعتقاد أنّه، وبدلاً من اعتبار الانتفاضة رافعةً للنضال الفلسطيني، يستند إليها، فإنّه ربّما يعتبرها سبباً في التعجيل بهذا الانهيار الوشيك. وهنا نعود إلى رسالة القيادي الفتحاوي، مروان البرغوثي، من خلف قضبان السجن الإسرائيلي، لنكتشف كم كانت دعوته إلى مسار وطني بديل، وبنيةٍ سياسيةٍ شابة، وتجديد الخطاب والبنية في مكانها ووقتها.
يتحمّل الرئيس محمود عباس والسلطة الفلسطينية كامل المسؤولية عن التراجعات المستمرة والمتتالية من هاويةٍ إلى أخرى، إلّا أنّ الفصائل الصامتة، والتي تخلت عن دورها النضالي السابق، تتحمل قسطها من المسؤولية نفسها، والساكت عن الحق شيطانٌ أخرس.