إلياس عطا الله.. في تفكيك الاستقواء على العربية

10 يوليو 2020
(إلياس عطا الله، تصوير: جوزيف نويصري/ العربي الجديد)
+ الخط -

تصدّى الباحث الفلسطينيّ إلياس عطا الله، أثناء محاضرةٍ ألقاها مساء الثلاثاء الماضي في "معهد الدوحة للدراسات العليا"، لقضيّة محوريّة، لها وثيقُ صلةٍ بتطوّر العربية المعاصرة وأنماط حضورها في الخطاب الإعلامي ومناهج التربية، فضلاً عن استخدامها في التواصل اليوميّ. وتتنزّل هذه القضيّة ضمن جنسٍ من القول مِعياريٍّ، ما فتِئ يَظهر دوريًّا، منذ عصر الجاحِظ، تعقُّبًا لـ "اللّحن" بما هو خطأ في استخدام الكلمات وإعرابها وتصريفها وحتى إسناد معانٍ موهومة لها. وممّا اشتهر، في هذا الجنس، كتاب "لَحْنُ العوام" لأبي بكر الزُّبيْديّ (928 - 989) و"دُرّة الغوّاص في أوهام الخَواص" لمحمد الحريريّ (1054 - 1122).

عدّد عطا الله، خلال مداخلته، بعضَ النماذج التي انتقاها ممّا جرى على ألسنة الناس خطأً في سجلّات تواصلِهم المُتباينة، رسميِّها وعَفْويِّها. وقد طاوَل بعضُها البناءَ الصرفيّ أو النحويّ، واتّصل بعضُها الآخر بالمعاني الشائعة للكلمات، وما هي إليها بالمُسنَدة ولا المُثبتَة. ويبدو أنّ القاعدة التي حَكمت هذا العمل الاستقصائيّ "صوابٌ مَهجور خير من خطأ شائع". ولذلك اعتمد عطا الله على "تَاج اللغةِ وصِحاح العَربِيَّةِ" للجوهريّ (ت. 1003)، ليكون الفيصلَ في تقرير ما كان صحيحًا، ومُتطابقًا مع ما نَطقَت به "العربُ الخُلّص"، كما كان يسمّيهم شيخ الصناعة الجرجانيّ (ت. 1078).

نضال وجوديّ- ثقافيّ يهبُ مشروعه بُعدًا حضاريًا

يندرج هذا الضرْب من التفكير ضمن منظور القواعديّة، بما هي موقفٌ معياريٌّ من استخدام اللغة، وهو يسعى، كسائر ما أُلِّفَ من كُتب خُصِّصت للأخطاء الشائعة مثل "مُـعجم الأغلاط اللغويّة المعاصرة" (1984) لمحمد العدنانيّ، و"مُعجم أخطاء الكُتاب" (2006) لصلاح الدين الزعبلاويّ وغيرهما، يسعى إلى صوْن الضاد ممّا لَحقها من تهميشٍ وانتهاكٍ، وإلى إحياء تحديثيّ للفَصيح- السليم، حفاظًا على صفاء اللغة من لوْثة الخَطأ والاستخدام غير الدقيق.

رشفات من العربية

وقد قسّم المُحاضرُ، وهو المُتضلّع من لسان العرب، الأغلاطَ إلى دلاليّة وشكليّة. فيَشمل القسم الأول منها سائرَ المفردات والعبارات التي يَستعملها المتكلّمون، في أيامنا، بمعنًى مخالفٍ لما أثبتته لها المعاجم الفصيحة، ومن ذلك كلمة: زَخَم (بتحريك الخاء) التي استُخدمت، بشكل مكثّف أثناء "الربيع العربي"، مع أنّها تدلّ على "النَّتَن". والصواب فيها "الزخْم"، بإسكان الخاء، وهي المحيلة على الاندِفاع والانطلاق. ومن ذلك أيضًا كلمة "تنويه" التي شاعت في الحقلَين القانوني والسينمائي، وفيهما تُستعمل بمعنى "تحذير" أو "تنبيه"، في حين أنَّ معناها الأوليّ والصحيح رديفُ "الإشادة" و"الامتداح". ومن القسم الشكليّ، الخاص بالعلاقات النحويّة الصوريّة، ذكر المُحاضِر بعضَ الأخطاء، وهي في النظر أدقُّ وسَيرَانُها على الألسن أقلّ. ومن ذلك عبارة "ناهيك عن"، التي تُستعمل بمعنى "بالإضافة إلى" و"فضلاً عن"، مع أنها تشير إلى دلالة "حَسْبَ". كما لا يستقيم تعليق حرف الجرّ "عن" بها ولا يُجاورها أداةً.

تطرّق صاحب "الأفعال الثلاثيّة المضاعفة" (2013) إلى المفردات التي لا توجد أصلاً في كلام العرب، ولا نَطقت به يَدَ الدَّهر، ومن ذلك مفردة "الرفاه"، التي تَشيع في التهاني بالزواج في القول المعروف "بالرَّفاه والبنين"، والصّواب فيها: "بالرَّفاء"، بالهَمز. وهو في اللغة، كما قال ابن الأثير، "الالتئام والاتّفاق والبَركة والنماء"، وأما "الرفاه"، هذه، فلا شيءَ، ولا لها أصلٌ. 

وهكذا، ظلّ الباحثُ الفلسطيني يَسقي مُتابعيه رشفاتٍ من التدقيق والتحقيق اللغوييْن، ما به يروي ظمَأهم، مُتنقّلًا من استخدامٍ لآخَرَ، يتعقّب، في رَشاقةٍ وظَرْفٍ، ما فيها من الوَهَن والاشتباه. وختمَ المحاضرة بحِكمَة نفيسة: "لو كان لَدَيْنا من الغيْرَة مثقالُ ذرَّةٍ من غيْرتنا على قواعديِّة لغة الآخَر، التي نُجيدها، لكانَت العربيّةُ عروسَ الأرض والسّماء"، ممّا يؤكّد أنّ القضيّة لديه أبعدُ من اللسان وأخطائِه، بل هي مسألة أرضٍ وسماءٍ، قداسَةٍ وتاريخٍ، بين الروحانية والخُبْز، والسرّ والدّم، تندرج ضمنَ "نِضال" وجوديّ- ثقافيّ، هدفُه تفكيك مظاهر ما أسماه "الاستقواء" على العربية والإزْراء بقواعدها في مقابل الاعتداد بقواعديّة لغة الآخر "التي لا يَجرؤ أحدٌ على انتهاكها". وهو ما يهبُ مشروع إلياس عطا الله بُعدًا سياسيًّا حضاريًا، حقيقته التزامٌ، بعيدُ المَدى، بأصل الهويّة العربيّة ومُقوّم وجودها الرئيس، في معترك لغات العالَم التي تتدافع من وسيط إلى آخَرَ لبسط هَيْمنَتها. 

دور يضْطلع به منذ زمن ولا سيما في فلسطين المحتلة

وهذا هو ذاتُ الدور الذي يضْطلع به، كَأحسن ما يكون الاضطلاع، صاحب "وإذا الموءودة سُئِلت" (2007)، منذ سنواتٍ. بيد أنّ الخطر الخفيّ الذي يمكن أن يحدقَ بهذا المجهود هو عَدم ملاحظة ما يَطرأ على اللسان من تغيّرات، كما طرأت دائمًا وفي كلّ العصور، فَأثْرَتْه وطوّرته. ذلك أنّ الاعتداد فقط بما وَرَدَ في المعاجم القديمة والتصدّي لكلّ توسُّعٍ تقتضيه ضرورات التعبير، ورغبة الناس في التخفّف من إصْر القواعد، ربما بسبب تعقّدها أو الجهل بها، قد يُعرقل بعض التحوّلات، وبعضها إيجابيٌّ، والتي من شأنها أن تفتح للناس وللغة طرائقَ بِكْرًا في التعبير والتفكير. ولا يغيب على أحد أنّ ما يُصنّف في خانة "اللّحن" والخطأ هو، في نظر الألسني، تطوّر يَعكس مدى حيوية اللسان، ويُظهر ما في "الأداء"، بالمعنى الذي ذكره تشومسكي، من ثراءٍ وتنوّع، وربّما إبداع. فَكم من خطأ لجبران خليل جبران، عيبَ عليه في عصره، وهو من ملامح فرادته الشعريّة. ويكفي أن نستذكر أيضًا ما سُجِّلَ على أبي الطيّب المتنبّي من أغاليط جَمعها من معاصِرينا علي محمود طه في كتاب "الأخطاء النحوية والصرفية في شعر المتنبّي" (1979) فضلًا عمّا التقطه له معاصِروه، مع أنّها عنوانُ تميّزه. 

كانت هذه المحاضرة رشفةً من المَنهل الصافي للضاد، أرادها صاحبُها تدقيقًا لما يسود من استعمالات بعض الكَلم، مما يَحيد عمّا اختَطَّته المُعجمات المتمكّنة، والتي عليها يُعوّل في تَحديد فَصل الخطاب وفَصيحه. كما كانت الرّشفاتُ تحريرًا للكلام، عبر نماذج منتقاة، مما يَعلق به من لَوْثة اللحن، وإطلاق أسْر المُتكلّم من عُقدتَي الاستِقواء والإزْراء. وهذا العَمل جَهدُ المُقلِّ في مواجهة مساراتِ التغريب التي تُحرّكها عُقَدُ اللغات الأجنبية فينا، وصونِ الضاد من الملاحِن التي تَطمس هويّتَها وهويّتَنا.


تحرير اللغة والأرض

إلى جانب كتبه وأبحاثه ودراساته اللغوية، يبرز اسم إلياس عطا الله منذ عقود في الدفاع عن العربية في الداخل الفلسطيني المحتلّ، وتأتي محاضرته بمناسبة صدور كتابه "رشفاتٌ من العربية: محاضراتٌ في التدقيق والتحرير" عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات". يدرّس صاحب "التذكير والتأنيث في اللغة" منذ 2015 في "معهد الدوحة للدراسات العليا"، وهو عضوٌ في المجلس العلمي لـ"معجم الدوحة التاريخي".

المساهمون