بعض الأسماء الواردة كانت معروفةً أساسًا، مثل مرشحي الرئاسة الأسبقين عن الحزب الجمهوري ميت رومني وبين كارسون، وبعضها كان أقل شهرةً، دوليًا على الأقل، ولكن أكثر تأثيراً، مثل ستيفن بانون الذي أصبح مستشارًا رئيسيًا لدى ترامب بعد اشتراكه في تنظيم حملة ترشحه سابقًا، ورغم عمل بانون كمنتجٍ في هوليوود وفي قطاع الاستثمار، إلا أنه عُرِف بعد عمله رئيسًا تنفيذيًا لموقع "بريتبارت Breitbart" الإخباري، الذي أثار ضجةً كبيرة منذ 2015، وارتبط صعوده بصعود ترامب وموجة "اليمين البديل".
من نقل الأخبار إلى صناعتها
تعود بداية الموقع اليميني المتطرف إلى عام 2005، حين أنشأه الصحفي أندريه بريتبارت بصيغةٍ بدائية كمجمع للأخبار، يعتمد على المقالات والمواد من مواقع أخرى، كـ أسوشيتد برس وواشنطن تايمز وشبكة فوكس، لكن الصحافي الأميركي، الذي كان يخشى على حدّ زعمه "سيطرة الديموقراطيين على وسائل الإعلام الكبرى"، بادر عام 2007 إلى إنشاء مدوّنة فيديو تحت اسم breitbart.tv، شاقًا الطريق المستقل للموقع، الذي سيبرئ نفسه لاحقًا من وسائل الإعلام، ذات الميول الجمهورية أو الديموقراطية على حدٍ سواء، ويعتمد هذا الاستقلال كأبرز وسائل انتشاره، وفقًا لمؤسسه الذي اعتبر في تصريحٍ صحفي أن الموقع سيعمل على كسر هيمنة وسائل الإعلام الكبرى.
ورغم ابتعاد الموقع تدريجيًا عن الاعتماد على نقل الأخبار، فإنه لم يأخذ شكله الحالي إلا عام 2012، حين أُعيد تصميمه بالكامل إثر وفاة مؤسّسه أندري بريتبارت واستلام ستيفن بانون منصب الرئيس التنفيذي فيه، ليُكمِل القائمون عليه عمل مؤسسه بالاتجاه نحو صيغة الصحف الصغيرة (Tabloid). وتاريخ الموقع الالكتروني شهد مرحلتين؛ الأولى عام 2014 حين وسع طاقم عمل الموقع وافتتح مكاتبًا له في لندن وتكساس والقدس، أما الثانية كانت عام 2016 حين بدأ الموقع تأييد دونالد ترامب في السباق الرئاسي، ما أثار حفيظة بعض العاملين فيه ودفعهم للاستقالة بعد اعتراضهم على خروج الموقع عن خطه المتمثّل في "محاربة النخب السياسية والسلطة، وتحوّله إلى أداة بروباغاندا لصالح ترامب"، وألحق ذلك باستقالة بانون الذي انضم إلى حملة المرّشح الجمهوري حتى فوزه، وثبات الموقع على موقفه الداعم لترامب.
استقطاب شرائح جديدة
حاول الموقع إذن منذ ظهوره، التأكيد على ابتعاد خطه الافتتاحي عن وسائل الإعلام الكبرى، التي رآها مقيدةً بالتصحيح السياسي وتوجّهها العالمي، وتوفيره بديلًا ذا مصداقية. ونجح إلى حدٍ ما في ذلك بسبب عدة عوامل أبرزها؛ جهد مؤسسه الراحل، الذي اشتَهَر قبل تأسيسه الموقع بقدرته على النهوض بمواقع إخبارية من الصفر، مثل "درادج ريبورت" و"الهافينتون بوست" اللذين كان له فضلٌ كبير في بروزهما.
كما ساهمت عدة قصص نشرها الموقع في إبراز اسمه، ففي عام 2009 كشف الموقع عن لقاءٍ بين ممثلين من البيت الأبيض وأعضاء في مؤسسة الوقف الوطني للفنون، عُقِد لتوجيه بعض أنشطة ومنح المؤسسة بحيث يدعم الفنانون المستفيدون من منحها أجندة الرئيس أوباما المحلية، وخصّيصا برنامجه United We Serve، الأمر الذي اعتبر حينها خرقًا لسياسة المؤسّسة وتدخلاً فيها، وعزّز صورة الموقع بوصفه مراقبًا مستقلًا للحرّيات.
في وقت كانت تُعتَبَر الشرائح الأكبر سنًا أهم قواعد اليمين الشعبية في الولايات المتحدة، لعب الموقع، بصفته منصّةً لليمين البديل، دورًا في تغيير هذا الاعتقاد أو التوزيع معتمدًا على محرّرين من الشريحة الشابة بخطابٍ يختلف عن ذاك في المؤسّسة الجمهورية، أبرزهم البريطاني ميلو يانوبولوس، محرّر الشؤون التقنية في الموقع، الذي سبب انضمامه صعقةً للعديد من متابعي عمل "بريتبارت".
قام يانوبولوس المعروف بـ"المثلية الجنسية"، بأولى البوادر لاستمالة شريحةٍ من المجتمع الأمريكي(المثليين)، عُرِفت بانحيازها للديموقراطيين عادةً، والعمل على خلق علاقة بديلةٍ بينها وبين اليمين، مستغلًا حادثة إطلاق النار في ملهى "بولس" في فلوريدا ليحوّل العداوة باتجاه الجالية المسلمة، وهي أهم عناصر الخطاب اليميني حاليًا. كما أدى إغلاق حسابه في تويتر شهر تموز المنصرم إلى تقوية صورته كضحية "للتصحيح السياسي" بعد أن دخل في حرب تغريدات مع الممثلة الأمريكي ليزلي جونس عن دورها في فيلم Ghostbusters، مستعملًا مفرداتٍ عنصرية، ليظهر كضحية حربٍ على حرّية التعبير، مكتسباً المزيد من التعاطف.
الشعبوية والإسلاموفوبيا
ورغم كل هذه الوسائل، فإن نجاح "بريتبارت" يعود بشكلٍ كبير إلى تغير أكبر، لم يكن مسؤولًا عن إحداثه، بقدر ما كان ناجحًا في استغلاله وركوب موجته. ففي عام 2014 لم تتعدَ نسبة الأمريكيين الذين يعرفون الموقع حدود 15 %، ومن يصدقونه 4 %. بينما يحتل الموقع اليوم المرتبة الثالثة بين المواقع الإخبارية المحافظة وراء كل من شبكة فوكس وموقع "درادج ريبورت".
والسبب وراء هذا الارتفاع الذي لا يخفى هو نجاح الموقع في العمل كامتدادٍ إلكتروني لشريحةٍ كبيرة تنشد تغييرًا في السياسة المحلية، فاقدة للثقة بالنخب السياسية ومصطلحاتٍ كالتعددية الثقافية والعولمة، بعد أن سئمت تباطؤ النمو الاقتصادي وانعدام المساواة واتّساع الهوة بينها وبين الشرائح الأكثر تعليمًا، وبالتالي رأت في مرشّحي اليمين الشعبويين خلاصًا لها وناقلين أمينين لباقي مخاوفها، كأزمات الهجرة والإسلاموفوبيا، عبر خطاب الحنين للماضي، لا في الولايات المتّحدة الأمريكية فقط، بل في عدة دول متقدمة أخرى، كالنمسا وفرنسا وبريطانيا.
وإذا كان فوز ترامب "قد أوقع مراكز الدراسات والاحصائيات في حيرةٍ من أمرها" كما يقول أنصاره، فإن قصّة "بريتبارت" لا يجب أن تكون أقل إثارةً للاستغراب والدراسة عن كثب، وتتوجّب أن تطرح أسئلة عن قدرة وسيلةٍ حديثةٍ نسبيًا على جذب 17 مليون قارئٍ جديد في سنةٍ واحدة. وذلك رغم تذبذب جودة موادها أحيانًا، والتي لا تتعدى كونها نظريات مؤامرة عن تسلل "الإسلاميين" إلى مراكز اتخاذ القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، أو العمليات الإرهابية التي ينفذها المحتجون السود ضد عنف الشرطة.
معايير أخرى
وسائل التواصل الاجتماعي قد تقدم جزئًا من الإجابة، متعلقًا بالسهولة التي تتيحها لأي جهة بنشر الأخبار، دون النظر إلى مصداقيتها، وبعموميتها كونها لا تتطلب محدداتٍ قاسية لاستخدامها.
وفي شأن "بريتبارت" فإن الأمور تبدو أوضح، ففي ليلة الانتخابات كانت صفحة الموقع على فيسبوك الرابعة من حيث عدد الزيارات، متفوّقةً على وسائل مثل" سي إن إن" والنيويورك تايمز.
أما الجزء الآخر من الإجابة سيبقى متعلقًا بكون انتخابات 2016 جرت في أكثر سنة فقد فيها الناخب الأمريكي ثقته بوسائل الإعلام الكبرى منذ عام 1972 وفقًا لمركز أبحاث "جالوب"، منتقلاً إلى الوسائل البديلة هذه، المجسّدة لسياساتٍ جديدة، أكثر قومية وشعبوية، ما يضع القائمين على ديموقراطيات العالم الأوّل، اليوم أكثر من أي وقت مضى، في موقفٍ محرج لا تُعرف نهايته أو نتائجه.