في إطار الدورة الـ3 لـ"مهرجان طرابلس للأفلام"، المُقامة في عاصمة الشمال اللبناني بين 20 و27 أبريل/ نيسان 2016، تمّ عرض ثلاثة أفلام روائية طويلة في المسابقة الرسمية، فاز أحدها بجائزة أفضل فيلم، وهو "يحيى لم يبقَ صامتاً" للإيراني كافيه إبراهامبور (1976)، ونال ثانيها تنويهاً، وهو بعنوان "في الريح المتعامِدة" للأستونيّ مارتي هيلدي (1987). أما الثالث، فيحمل عنوان "حب، سرقة وأشياء أخرى" للفلسطيني مؤيد عليان (1980).
اختيار الأفلام الثلاثة هذه نابعٌ من مسألتين أساسيتين: تكمن الأولى في قدرة الإنتاج المنخفض على تحقيق عمل سينمائيّ متماسك وجميل ومؤثّر (وإن بتفاوتٍ في مستويات هذا كلّه بين فيلمٍ وآخر)، وتتعلّق الثانية بالإمكانية الدرامية والجمالية على تحويل قصّة فردية إلى مدخل بصريّ لقراءة بيئة ومجتمع وحالة إنسانية جماعية.
لم تُحصَر مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، في المهرجان اللبناني حديث النشأة، بالأفلام الثلاثة هذه فقط. ذلك أن اللائحة تضمّ 8 أعمال مُنتجة في العامين 2014 و2015، بينها عناوين يُمكن إدراجها، بشكلٍ أو بآخر، في خصوصية الاختيار، كـ"ملجأ" للألماني مارك برومّوند (1970)، و"أنت قبيح أيضاً" للإيرلندي مارك نوونان (1982). في المقابل، تشترك سبعة أفلام منها في "ثيمة" واحدة، مرتبطة بالأم، ككائن غائب عن المشهد لمرضٍ أو موتٍ، أو حاضرٍ كسلطة أو كسببٍ للانقباض العاطفي والانفعالي والحياتي لمن يخضع لسلطته. في الأفلام الثلاثة هذه، تحضر الأم وتغيب: موتها ـ في الفيلم الإيرانيّ ـ يؤدّي بالصبي يحيى (ماهان ناصيري)، ابن الأعوام الـ8، إلى عيش تجربة عاصفة بالأسئلة الغامضة والمشاعر المرتبكة والتوهان النفسيّ والروحي، في ظلّ عمّته (فاطمة معتمد آريا) التي تحوم حولها التباسات جمّة. لكن غيابها ـ في الفيلم الفلسطيني ـ لن يؤثّر كثيراً على مسار الشاب موسى (سامي متواسي)، الباحث عن خلاصٍ من قسوة اليوميّ في بلدٍ خاضع لاحتلال إسرائيلي، ولكمٍّ هائل من المآزق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. في حين أن المرأة ـ في الفيلم الأستونيّ ـ تروي حكايتها عبر رسائل مكتشفة لها لاحقاً، فإذا بالمرأة هذه تجمع في ذاتها شخصية الأم والإنسانة العاشقة زوجاً ضائعاً في متاهة الحرب العالمية الثانية.
اقــرأ أيضاً
سرديات مختلفة
لن تنتمي الأفلام الثلاثة إلى النوع الدعائيّ النضالي الانفعالي، في مقاربة 3 حكايات مستلّة من بيئات ملتهبة بغليان السياسة والعسكر والموت والخراب. لن تُحمَّل بخطابيات مجانية، أو بشعارات مبطّنة في طيات الحبكة والسرد والأداء، والمناخ الدرامي المتكامل. لن تكون انتقادية ساذجة لبيئات أو تقاليد أو حالات، هي ـ فعلياً ـ مُصابة بارتباك وتمزّق جرّاء قمع أو ثقل عاداتِ أنظمةٍ تُسيّر شؤون الحياة اليومية وتفاصيل العيش. فالأفلام الثلاثة ترتكز على بناء درامي متين الصنعة، وإنْ بنسبة أقلّ في الفيلم الفلسطيني، الأضعف درامياً وكتابة واشتغالاً بينها. وتؤدّي دور المرأة في كشف خفايا، وتفكيك بُنى، وسرد حكايات تنطلق من الفرديّ كي تكشف شيئاً من بؤس الجماعة، وتبوح بانفعالٍ ذاتي يخرج من الـ"أنا" إلى الـ"نحن"، بسلاسة وبساطة.
الإنتاج المتواضع لن يكون عائقاً أمام إعادة تكوين أجواء متداولة سابقاً، لكنها مُقدَّمة ـ هنا ـ بلغة تمزج واقعاً مفرطاً في واقعيته بسلاسة سردية (الفيلمان الفلسطيني والإيرانيّ)، وبنصّ شعريّ يتماهى بنبرة صوتية أنثوية تزيد نسبة الحساسية الكبيرة للألم وقسوة الجريمة (الفيلم الأستونيّ). فالجريمة (إخلاء بلاد البلطيق، أستونيا ولاتفيا وليتوانيا تحديداً، من سكّانها الأصليين، بأمر مباشر من الزعيم السوفياتي جوزف ستالين مطلع أربعينيات القرن الـ20) لن تكون ظاهرة مباشرة، إذ يعتمد مارتي هيلدي على ركائز إنسانية لسرد بعض مجريات الفعل الجُرمي. والجريمة ـ إذ تنسلّ خفية في ثنايا النصّين السينمائيين الإيراني والفلسطيني ـ تنكشف في موروثات اجتماعية ضاغطة، تؤدّي إلى ضياع أو توهان أو ارتباك ذاتي فرديّ في مواجهة الجماعة. في "يحيى لم يبقَ صامتاً"، تنبثق الجريمة من قوّة الإشاعات في تصنيع قيودٍ خانقة تلتفّ ليس فقط على ضحية واحدة، لأنها تطاول الجميع، بطريقة أو بأخرى. وفي "حب، سرقة وأشياء أخرى"، تكون الجريمة مضاعفة، إذ يتأتى الاختناق الاجتماعي ـ الاقتصادي من بطش الاحتلال الإسرائيلي، ومن طغيان فعل جهاديّ في بيئة محافظة، ومن عوائق تحول دون اكتمال الحبّ بين شابين.
اقــرأ أيضاً
موسى الفلسطيني مهمومٌ بالخروج من "المعتقل"، أي من البلدة المقيم فيها، كي ينتصر لحريته وخلاصه، خصوصاً بعد اقتران حبيبته برجل أعمال. يريد مالاً، فيسرق سيارات ويبيع "قطعها". لكن، ذات مرة، يتورّط بما لم يكن في حسبانه أبداً: يسرق السيارة "الخطأ"، من دون معرفته بوجود جندي إسرائيلي في صندوقها الخلفيّ، تخطفه جماعة فلسطينية مسلّحة. يحيى الإيراني يجد نفسه، فجأة، في عالم مُغلقة أبواب كثيرة فيه. العمّة طبيبة، لكنها تعمل في الخفاء على إجهاض نساء لا يُردن أطفالهنّ، لأن الحمل ناتجٌ من علاقة خارج الزواج. الحصار لن يكون مادياً فقط، لأن يحيى يتفتّح على غموضٍ تلو آخر، داخل البيت وخارجه. "الخطأ" الذي يرتكبه يؤدّي بالعمّة إلى السجن: لشدّة الشائعات المحيطة بالعمّة وبمنزلها، يُشكّك يحيى بعمّته التي لا تروي له حقائق كثيرة. وعندما تموت صبيّة بين يديها (زوجة شابّة لعجوز هو صديق العمّة وطبيب مثلها)، يظنّ يحيى أن العمّة سبب ذلك، فيتصل بالشرطة، ويُلقى القبض عليها، قبل أن يُدرك الصبيّ أن موت الشابّة ناتجٌ من شربها السمّ لنجاة من قهر لا يُحتمل.
عناوين
إيرنا (لورا بيترسن) تروي رحلة الخراب في رسائل يُفترض بها أن تُرسل إلى زوجها ـ حبيبها العسكري المعتقل في سجون ستالين. ترافقها ابنتها التي تتوفّى لاحقاً بين يديها. الجريمة هنا جماعية، لكن السرد الذاتيّ كفيلٌ بتفكيك معالمها، عبر اشتغال سينمائيّ مختلف تماماً عن سلاسة السرد وبساطته في الفيلمين الفلسطيني والإيراني. ممثلون جامدون في لقطات طويلة، وكاميرا تتجوّل بين الجميع على إيقاع موسيقيّ يُزيد من فداحة الفعل وجماليات الصورة، أو على نبرة الراوية إيرنا، المشبعة بفيض من الحنان والقهر والألم والحبّ والرغبة في الخلاص. أما الاختلاف بين مشاهد ملوّنة وأخرى بالأسود والأبيض فيُضاعف من جمالية الصورة، وقسوة الواقع. ذلك أن الملوَّن محصورٌ بلحظات اللقاء المباشر بين الزوجين الحبيبين، قبل ارتكاب الجُرم. والأسود والأبيض كفيلان معاً في إعادة إنتاج كثافة الفعل الجرمي ووحشيته، وإن يظهر الفعل هذا في طيات السرد لا في واجهة المشهد. يظهر في وجوه تائهة، وأجساد منقبضة على الجوع والألم والتشرّد في مجاهل سيبيريا، أو في الطريق إليها، وعلى معالم الذلّ الذي يُطارد أبرياء، لن يتردّد الفيلم عن وصف مأساتهم بـ"هولوكوست" أستونيّ.
اقــرأ أيضاً
عنوان الفيلم الأستونيّ محمَّل، بدوره، بتكثيفٍ دراميّ للحبكة برمّتها. ذلك أن تعبير "الريح المتعامدة" فيه يعني، بحسب المعجم، "الريح التي تهبّ على زاوية قائمة من خطّ طيران الطائرة". في الزاوية تلك، كما تقول إيرنا، يتمّ لقاء الحبّ والخيبة، ولحظة الخروج القسريّ إلى الرحلة القاتلة المفروضة على نساء وعجائز وأولاد، بعد اعتقال الرجال وزجّهم في سجون ستالين. وعنوان الفيلم الإيرانيّ يختصر المسافة القائمة بين لحظة بداية انتشار الغموض والالتباسات والشائعات في حياة يحيى، ولحظة إمساكه الهاتف واتصاله بالشرطة. فاللحظة الأولى تؤسّس مفاعيل اللحظة الثانية، وتجعل "عدم الصمت" مدخلاً إلى انكشاف حقائق تُعرّي بيئة منغلقة ومحافظة، تقيم في غليان دائم في الاجتماع والاقتصاد والسلوك والتربية.
"حب، سرقة وأشياء أخرى" يخلو من أي ثرثرة، إذْ يُنبِّه إلى المفاتيح الدرامية التي يُفترض بالنصّ أن يستخدمها في سياق الحبكة. وإذْ تصنع السرقة النواة الدرامية الأساسية للدائرة المغلقة التي يقع فيها موسى، فإن "أشياء أخرى" تنفتح على مسالك العيش في بلدٍ محتلّ، وعلى التلاعب المهين الذي تمارسه سلطات الاحتلال بفلسطينيين يريدون خلاصاً ولا يعثرون عليه، وعلى سخرية اللحظة: سرقة واحدة فقط تكفي لـ"خربطة" كلّ شيء آخر، على المستوى الفرديّ لموسى، كما على مجريات المسار الدراميّ للحكاية المفتوحة على ألف سؤال وتحدّ فلسطيني. أما الـ"حبّ"، فموزّع بين مشاعر وانفعالات شتّى، تكاد الـ"خربطة" هذه تطيح به.
(كاتب لبناني)
اختيار الأفلام الثلاثة هذه نابعٌ من مسألتين أساسيتين: تكمن الأولى في قدرة الإنتاج المنخفض على تحقيق عمل سينمائيّ متماسك وجميل ومؤثّر (وإن بتفاوتٍ في مستويات هذا كلّه بين فيلمٍ وآخر)، وتتعلّق الثانية بالإمكانية الدرامية والجمالية على تحويل قصّة فردية إلى مدخل بصريّ لقراءة بيئة ومجتمع وحالة إنسانية جماعية.
لم تُحصَر مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، في المهرجان اللبناني حديث النشأة، بالأفلام الثلاثة هذه فقط. ذلك أن اللائحة تضمّ 8 أعمال مُنتجة في العامين 2014 و2015، بينها عناوين يُمكن إدراجها، بشكلٍ أو بآخر، في خصوصية الاختيار، كـ"ملجأ" للألماني مارك برومّوند (1970)، و"أنت قبيح أيضاً" للإيرلندي مارك نوونان (1982). في المقابل، تشترك سبعة أفلام منها في "ثيمة" واحدة، مرتبطة بالأم، ككائن غائب عن المشهد لمرضٍ أو موتٍ، أو حاضرٍ كسلطة أو كسببٍ للانقباض العاطفي والانفعالي والحياتي لمن يخضع لسلطته. في الأفلام الثلاثة هذه، تحضر الأم وتغيب: موتها ـ في الفيلم الإيرانيّ ـ يؤدّي بالصبي يحيى (ماهان ناصيري)، ابن الأعوام الـ8، إلى عيش تجربة عاصفة بالأسئلة الغامضة والمشاعر المرتبكة والتوهان النفسيّ والروحي، في ظلّ عمّته (فاطمة معتمد آريا) التي تحوم حولها التباسات جمّة. لكن غيابها ـ في الفيلم الفلسطيني ـ لن يؤثّر كثيراً على مسار الشاب موسى (سامي متواسي)، الباحث عن خلاصٍ من قسوة اليوميّ في بلدٍ خاضع لاحتلال إسرائيلي، ولكمٍّ هائل من المآزق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. في حين أن المرأة ـ في الفيلم الأستونيّ ـ تروي حكايتها عبر رسائل مكتشفة لها لاحقاً، فإذا بالمرأة هذه تجمع في ذاتها شخصية الأم والإنسانة العاشقة زوجاً ضائعاً في متاهة الحرب العالمية الثانية.
سرديات مختلفة
لن تنتمي الأفلام الثلاثة إلى النوع الدعائيّ النضالي الانفعالي، في مقاربة 3 حكايات مستلّة من بيئات ملتهبة بغليان السياسة والعسكر والموت والخراب. لن تُحمَّل بخطابيات مجانية، أو بشعارات مبطّنة في طيات الحبكة والسرد والأداء، والمناخ الدرامي المتكامل. لن تكون انتقادية ساذجة لبيئات أو تقاليد أو حالات، هي ـ فعلياً ـ مُصابة بارتباك وتمزّق جرّاء قمع أو ثقل عاداتِ أنظمةٍ تُسيّر شؤون الحياة اليومية وتفاصيل العيش. فالأفلام الثلاثة ترتكز على بناء درامي متين الصنعة، وإنْ بنسبة أقلّ في الفيلم الفلسطيني، الأضعف درامياً وكتابة واشتغالاً بينها. وتؤدّي دور المرأة في كشف خفايا، وتفكيك بُنى، وسرد حكايات تنطلق من الفرديّ كي تكشف شيئاً من بؤس الجماعة، وتبوح بانفعالٍ ذاتي يخرج من الـ"أنا" إلى الـ"نحن"، بسلاسة وبساطة.
الإنتاج المتواضع لن يكون عائقاً أمام إعادة تكوين أجواء متداولة سابقاً، لكنها مُقدَّمة ـ هنا ـ بلغة تمزج واقعاً مفرطاً في واقعيته بسلاسة سردية (الفيلمان الفلسطيني والإيرانيّ)، وبنصّ شعريّ يتماهى بنبرة صوتية أنثوية تزيد نسبة الحساسية الكبيرة للألم وقسوة الجريمة (الفيلم الأستونيّ). فالجريمة (إخلاء بلاد البلطيق، أستونيا ولاتفيا وليتوانيا تحديداً، من سكّانها الأصليين، بأمر مباشر من الزعيم السوفياتي جوزف ستالين مطلع أربعينيات القرن الـ20) لن تكون ظاهرة مباشرة، إذ يعتمد مارتي هيلدي على ركائز إنسانية لسرد بعض مجريات الفعل الجُرمي. والجريمة ـ إذ تنسلّ خفية في ثنايا النصّين السينمائيين الإيراني والفلسطيني ـ تنكشف في موروثات اجتماعية ضاغطة، تؤدّي إلى ضياع أو توهان أو ارتباك ذاتي فرديّ في مواجهة الجماعة. في "يحيى لم يبقَ صامتاً"، تنبثق الجريمة من قوّة الإشاعات في تصنيع قيودٍ خانقة تلتفّ ليس فقط على ضحية واحدة، لأنها تطاول الجميع، بطريقة أو بأخرى. وفي "حب، سرقة وأشياء أخرى"، تكون الجريمة مضاعفة، إذ يتأتى الاختناق الاجتماعي ـ الاقتصادي من بطش الاحتلال الإسرائيلي، ومن طغيان فعل جهاديّ في بيئة محافظة، ومن عوائق تحول دون اكتمال الحبّ بين شابين.
عناوين
إيرنا (لورا بيترسن) تروي رحلة الخراب في رسائل يُفترض بها أن تُرسل إلى زوجها ـ حبيبها العسكري المعتقل في سجون ستالين. ترافقها ابنتها التي تتوفّى لاحقاً بين يديها. الجريمة هنا جماعية، لكن السرد الذاتيّ كفيلٌ بتفكيك معالمها، عبر اشتغال سينمائيّ مختلف تماماً عن سلاسة السرد وبساطته في الفيلمين الفلسطيني والإيراني. ممثلون جامدون في لقطات طويلة، وكاميرا تتجوّل بين الجميع على إيقاع موسيقيّ يُزيد من فداحة الفعل وجماليات الصورة، أو على نبرة الراوية إيرنا، المشبعة بفيض من الحنان والقهر والألم والحبّ والرغبة في الخلاص. أما الاختلاف بين مشاهد ملوّنة وأخرى بالأسود والأبيض فيُضاعف من جمالية الصورة، وقسوة الواقع. ذلك أن الملوَّن محصورٌ بلحظات اللقاء المباشر بين الزوجين الحبيبين، قبل ارتكاب الجُرم. والأسود والأبيض كفيلان معاً في إعادة إنتاج كثافة الفعل الجرمي ووحشيته، وإن يظهر الفعل هذا في طيات السرد لا في واجهة المشهد. يظهر في وجوه تائهة، وأجساد منقبضة على الجوع والألم والتشرّد في مجاهل سيبيريا، أو في الطريق إليها، وعلى معالم الذلّ الذي يُطارد أبرياء، لن يتردّد الفيلم عن وصف مأساتهم بـ"هولوكوست" أستونيّ.
عنوان الفيلم الأستونيّ محمَّل، بدوره، بتكثيفٍ دراميّ للحبكة برمّتها. ذلك أن تعبير "الريح المتعامدة" فيه يعني، بحسب المعجم، "الريح التي تهبّ على زاوية قائمة من خطّ طيران الطائرة". في الزاوية تلك، كما تقول إيرنا، يتمّ لقاء الحبّ والخيبة، ولحظة الخروج القسريّ إلى الرحلة القاتلة المفروضة على نساء وعجائز وأولاد، بعد اعتقال الرجال وزجّهم في سجون ستالين. وعنوان الفيلم الإيرانيّ يختصر المسافة القائمة بين لحظة بداية انتشار الغموض والالتباسات والشائعات في حياة يحيى، ولحظة إمساكه الهاتف واتصاله بالشرطة. فاللحظة الأولى تؤسّس مفاعيل اللحظة الثانية، وتجعل "عدم الصمت" مدخلاً إلى انكشاف حقائق تُعرّي بيئة منغلقة ومحافظة، تقيم في غليان دائم في الاجتماع والاقتصاد والسلوك والتربية.
"حب، سرقة وأشياء أخرى" يخلو من أي ثرثرة، إذْ يُنبِّه إلى المفاتيح الدرامية التي يُفترض بالنصّ أن يستخدمها في سياق الحبكة. وإذْ تصنع السرقة النواة الدرامية الأساسية للدائرة المغلقة التي يقع فيها موسى، فإن "أشياء أخرى" تنفتح على مسالك العيش في بلدٍ محتلّ، وعلى التلاعب المهين الذي تمارسه سلطات الاحتلال بفلسطينيين يريدون خلاصاً ولا يعثرون عليه، وعلى سخرية اللحظة: سرقة واحدة فقط تكفي لـ"خربطة" كلّ شيء آخر، على المستوى الفرديّ لموسى، كما على مجريات المسار الدراميّ للحكاية المفتوحة على ألف سؤال وتحدّ فلسطيني. أما الـ"حبّ"، فموزّع بين مشاعر وانفعالات شتّى، تكاد الـ"خربطة" هذه تطيح به.
(كاتب لبناني)