يُطلق اللبنانيون على الزلزال اسم الهزة، لأنّ كلّ شيء يهتز. يهتز كلّ ما حولك بما فيه تلك الجبال الراسخة. الهزة الوحيدة التي شهدتُها وكنت طفلاً، لا أذكر منها سوى صراخ الأب والأم لخروجنا، إخوتي وأنا، من تحت سقف بيتنا الريفي المصنوع من التراب وأعمدة أشجار الحور. ولما لم أكن أفقه ما يجري من حولي لم أتحرك من مكاني، حتى جاء عمي فحملني إلى الخارج. أياماً أمضيناها في العراء حتى زال خطر الهزات الارتدادية فعدنا إلى البيت. كنا محظوظين أنّ بيتنا لم يسقط على رؤوسنا. وشيئاً فشيئاً نسينا أنّ خطراً كان يهدد بدفننا أحياء.
هذه الصورة المطبوعة في ذاكرة طفل تحضُر في هذا الوقت بالذات، ليس لأنّ غضب الطبيعة قد يتجدد، بل للقول إنّ تلك الزلازل كانت رحيمة بالناس بالقياس إلى ما نعاينه جميعاً الآن. كلّ آلات الحرب الحديثة، باستثناء الأسلحة الذرية، يجري تجريبها فينا. أحدث ما أنتجه العقل البشري في المصانع الروسية والأميركية وغيرها من وسائل الفتك ينهال على مدننا وقرانا فيحيلها قاعاً صفصفاً. الصور التي تعرضها المحطات تدلل على تغيير في معالم الأرض ومن عليها بالتأكيد. حتى التلفزيون الرسمي السوري يعرض مشاهد يلتقطها مصوروه لقرى وبلدات "حررها الجيش الباسل". لا كلام مرافقاً للقطات. فقط بقايا بيوت ممزقة وخراب ينقصه طائر بوم يجثم على زاوية ركام. لا أثر للناس في المقاطع. طرقات مفتوحة على الفراغ المجهول لا أكثر ولا أقل. كأنّه لم يكن هناك نساء ورجال وأطفال وشيوخ يمارسون حياة عادية: تلاميذ يذهبون ويعودون من مدارسهم، ونساء يتسوقن لإطعام أسرهن، وأسواق شعبية تحفل بالأصوات تنادي على المعروضات. أو عمال وموظفون وحرفيون وفلاحون وصيادون وعاطلون عن العمل يلوكون الوقت بألسنتهم وهم جالسون على كراسي بلاستيكية في المقاهي الشعبية.
إنّها الحروب، والحروب التي نشهدها مركّبة، بمعنى أنّها أهلية بعناصرها المقاتلة في صفوف وحداتها النظامية وغير النظامية، وإقليمية لمشاركة أطراف في الإقليم في معتركها، ودولية لانخراط قوى عظمى في مجراها. كأنّ تلك الحروب تحمل رقم الحرب الكونية الثالثة في غير مسرحها الأوروبي التقليدي. كلّ ما نعرفه ينقلب رأساً على عقب، فلا المدن ظلت مدناً بصخبها المسالم، ولا القرى حافظت على إيقاعها الهادئ لحياتها.
الكارثة تطاول المجتمعات. كلّ ما في جوف المنطقة العربية خرج إلى العلن وبانت عيوبه التي طالما سترناها على ذواتنا والآخرين. ونحن مضطرون بعد هذه الكارثة إلى إعادة إعمار ما تهدّم بدءاً من الحجر وصولاً إلى البشر، وليس في أيدينا ما يقيم الأود، فكيف بالمليارات التي تتطلبها؟
*أستاذ جامعي