إيران وشيطان "الخلافة"
طوال الاسبوع الماضي، غصَت طهران بندوات وجلسات، لبحث تطورات الحدث العراقي، لكن أياً من المشاركين في هذه الفعاليات لم يملك جرأة القول إن ما يحدث في العراق، اليوم، هو النتيجة الطبيعية لسياسة بلادهم، طوال العقد الماضي. ومهما يكن من صفات الذكاء التي يخلعها الإعلام الغربي والعربي على قاسم سليماني، فإن اللعب مع شيطان الطائفية لن يبقي بلاده في منأى عن شره في نهاية المطاف.
تفسر القراءة الإيرانية للحدث العراقي كل شيء، ولذلك، هي لا تفسر شيئاً على الإطلاق، لأن صعوبة الإقرار بالخطأ صفة عامة في الشخصية السياسية الإيرانية، خصوصاً في ما يتعلق بالعلاقة مع العالم العربي. ومن رصد مكثف لمجمل القراءات الإيرانية، نجدها تتراوح بين موقف رسمي، يعطي ما حدث صفة الإرهاب، وتنامي حضور "المجموعات الإرهابية"، إلى تحليلات تلقي بجزء من المسؤولية على حكومة نوري المالكي، وأخرى تقول بعدالة "بعض" من مطالب السنة، وثالثة تتحدث عن لعبةٍ إقليميةٍ، تشارك فيها دول تحرك "دمى داعش" التي أعلنت الخلافة.
وأياً يكن من شأن هذه القراءات، إلّا أن ما حدث أعاد وضع العراق على رأس الأولويات الأمنية الإيرانية. ومازال الهدف الإيراني في العراق حكومة شيعية، تتوافق أيديولوجياً مع طهران، ويمكنها أن تراهن عليها. وإن كانت إيران قد أرسلت إشارات بشأن القبول ببديل للمالكي، إلا أن البديل الذي تقبل به يجب أن يكون صديقاً لها. ومن الملاحظ أن الأسماء السبعة التي يجري تداولها بديلاً للمالكي، معظمها محسوب على إيران.
منذ وصول حسن روحاني إلى الرئاسة، والتغيير الذي شهدته علاقة إيران بالعالم الغربي عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، صار الحديث عن "مكافحة الإرهاب" لازمة مرافقة للخطاب السياسي الإيراني، وهو العنوان نفسه الذي ساقه روحاني لـ"التعاون البناء" مع واشنطن. ويعتقد ساسة إيرانيون أن تعاون الولايات المتحدة مع إيران يمكن أن يساهم في تشكيل نظام أمنى إقليمي لمحاربة "التهديد الأمني الكبير لمصالح وأمن جميع الأطراف المعنية".
وتجد في الأوساط السياسية الإيرانية من يعلن صراحة أن "صعود (التطرف والجماعات الجهادية) يحتم على الولايات المتحدة وإيران ألا يكونا في حالة عداء؛ لأن المستفيد من هذا الوضع هي "الجماعات الإرهابية"، ويصب في مصلحة صعودها، وامتدادها من بلد إلى آخر".
يجيد فريق روحاني التغريد على "تويتر"، والوجود بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي، وبدا واضحاً أن الهدف مخاطبة العالم الغربي بلهجة جديدة. والحقيقة أن هذا الفريق حقق نجاحاً لا يستهان به. والملاحظ بوضوح، أيضاً، أن هذا الفريق غير معني بالتواصل مع العالم العربي، وحتى في تعامله مع وسائل الإعلام، فإنه يعطي الأولوية لوسائل الإعلام الغربية.
تجد مقولة" مكافحة الإرهاب" استحساناً كبيراً في الأوساط الإيرانية، والعراق لن يكون التجربة الأولى على صعيد التعاون مع واشنطن، فقد سبق لإيران أن تعاونت مع الولايات المتحدة الأميركية في أفغانستان، تحت مظلة مكافحة الإرهاب أيضاً، على الرغم من أن احتلال أفغانستان كان، في حقيقته، لعبة جيوسياسية واسعة. وعلى الرغم من أن سبب التعاون الحقيقي في العراق هو قلق كلا الطرفين من انهيار النظام في العراق، لأنه يمثل فشلاً للسياستين الإيرانية والأميركية على حد سواء. ومن المعروف أن إيران وفرت للجيش الأميركي معلومات عسكرية، ساعدتها في قصف أهداف حساسة في أفغانستان، قبل أن تتمكن من احتلال كابل.
وعلى الرغم من إغراء التجربة بالنسبة للطرف الإيراني، إلا أن تكرارها معقد، خصوصاً مع ما تحمله من تبعاتٍ داخلية وإقليمية، ولذلك، يبدو شعار "مكافحة الإرهاب" ذريعة ضرورية لمنح هذا التعاون مشروعية أمام الرأي العام الإيراني. وتتجاوز "محاسن" شعار "مكافحة الإرهاب" لدى إيران مسألة العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، إلى عموم العلاقة مع العالم، فإيران، اليوم، كما يقول واحد من مستشاري روحاني، تتحدث اللغة نفسها التي يتحدثها العالم، وذلك يمثل فرصة لتغيير صورتها في العالم، ففي وقت يبدو فيه العالم العربي متناحراً وغارقاً في مشكلاته، ومحكوماً باستراتيجية رخوة من لاعبيه الرئيسيين، تظهر إيران مستقرة هادئة، تمارس استراتيجية صلبة محكمة.
تحذر أصوات قليلة في إيران من تبعات ما يحدث في العراق على إيران مستقبلا، ويرى أصحابها أن الاعتدال هو الصيغة الملائمة لإعادة التوازن إلى علاقات إيران الإقليمية، لكن سياسة إيران في العراق بعيدة تماماً عن الاعتدال، فقد استنفرت قواتها في محيط بغداد، واستدارت لإدارة الميليشيات الشيعية المسلحة التي بذلت جهداً كبيراً في تنظيمها وتدريبها في السنوات الماضية، وهذا معناه دخول العراق في مواجهات دموية. ولن يجدي نفي طهران وجود قوات إيرانية في العراق. فقبل أيام، شيعت إيران طياراً، قالت إنه قضى دفاعاً عن "حرم أهل البيت في سامراء"، و"مدافعو الحرم" هم فصيل تابع لفيلق القدس، شاركوا في القتال في سورية.
السؤال المطروح اليوم، ما إذا كان ما زالت هناك فرص للاعتدال في المنطقة، بعد أن دفعت سياسات إيران في سورية والعراق إلى إشعال حرب طائفية؟ ولعل البيئة داعمة "داعش" التي أعلنت الخلافة ونصبت خليفة، في مشهد يشابه المشاهد التي نجدها في المسلسلات الإيرانية، لم تكن لتتوفر لولا السياسة الإيرانية، والطريقة التي أدار فيها سليماني الأمور في العراق وسورية. ومرة أخرى: إن اللعب مع شيطان الطائفية، وصناعة الأعداء لتوفير بيئة مناسبة لتعزيز الهيمنة، لن يبقي إيران بعيدة عن شره في نهاية المطاف.