التحوّل بهذه الدرجة والسرعة أثار الكثير من الحيرة والاستغراب في واشنطن. لماذا الصحوة الآن على "الحوار" مع إيران بعد كل الاستنفار الذي جرى، بعد أن ضرب الرئيس بعرض الحائط كافة الدعوات والمناشدات التي نهته عن الانسحاب من الاتفاق النووي؟.
هل لإرباك طهران ورمي الكرة في ملعبها، علّ ذلك يثير خلافات بين أجنحة نظامها؟ أو هل بانفتاحه على طهران يبعث برسالة إلى السعودية لحملها على تلبية بعض مطالبه مثل الضغط على الفلسطينيين ليشاركوا في "ورشة البحرين" وينتظموا في صف الموافقين على "صفقة القرن"؟ أم أن تصعيده مع طهران كان مصمماً منذ البداية للتراجع عنه قبل بلوغه نقطة الانفجار، ليكون ذلك مدخلاً لمفاوضات ما تنتهي باتفاق يحمل توقيعه بدلاً من توقيع باراك أوباما الذي يعمل ترامب على محو تركته قدر الإمكان؟ ويذكر أن ترامب استخدم هذا النهج مع اتفاق "نافتا" الأميركي ــ الكندي ــ المكسيكي، الذي انسحب منه وأعاد التفاوض بشأنه لينتهي باتفاق جاء تقريباً نسخة عن "نافتا" الأصلي.
ثمة احتمال آخر كان وما زال مدار همس في واشنطن ولو أنه مستبعد ويتعلق باحتمال وجود وساطة بعيدة عن الأضواء بين واشنطن وطهران، أدت الاتصالات بشأنها إلى حلحلة اقتضت من ترامب ترطيب الأجواء وفتح الباب للتفاهم. الناطقة الرسمية في وزارة الخارجية، مورغن اورتغوس نفت في ردها على سؤال، "العربي الجديد"، أن تكون الإدارة على تواصل من هذا النوع مع طهران، قائلةً: "كلا. ما نطرحه نقوله علناً وبإمكان الإيرانيين الاطلاع عليه وبما يظهر أننا راغبون (في الحوار) إذا كانوا جادين".
الرجوع إلى الدبلوماسية واضح، لكن الغرض مبهم. الإدارة لم تفصح عن موضوع الحوار الذي تنشده: هل تدعو إلى التفاوض على الاتفاق من جديد على أن يشمل دور إيران في المنطقة ومشروعها الصاروخي؟ أم إلى التفاوض حول النقاط الـ12 التي حددها وزير الخارجية مايك بومبيو قبل سنة وبدعم من الرئيس ترامب؟ الرئيس ترك الدعوة مفتوحة وبدون شروط، الأمر الذي عزز الشكوك حول الجديّة، ناهيك بفرص النجاح.
مع ذلك، فإن كلام ترامب ساهم في تقليل احتمالات المواجهة العسكرية من غير إسقاطها نهائياً من الحسابات. كما أنه حسب السوابق، قد يكون مؤشراً على قرب نهاية مستشار الأمن القومي جون بولتون في البيت الأبيض. ففي كل مرة تصدى الرئيس وناقض أحد كبار مسؤوليه بصورة علنية كما فعل في اليومين الأخيرين مع مستشاره بولتون، كان ذلك بمثابة مقدمة لإقالته أو حمله على الاستقالة. جرى ذلك مع وزير الخارجية ريكس تيلرسون ووزير الدفاع جيمس ماتيس ومستشاره هربرت مكماستر والمدير العام للبيت الأبيض جون كالي وآخرين. ولا يبدو أن بولتون يشذ عن القاعدة، بعدما نقض الرئيس موقفه بصورة نافرة من تجارب كوريا الشمالية الصاروخية الأخيرة وأيضاً من إيران التي طالما دعا بولتون إلى وجوب تغيير نظامها الذي أعرب ترامب عن رغبته في التعامل معه.
انقلاب ترامب على نفسه كما على بولتون في الشأن الإيراني، لا يقبل الجدل. لكن ما لا يقبل الجدل أيضاً أن المشاهد على مسرح ترامب تتغير وفق فصول المسرحية ومستلزمات لعب أدوارها.