كما مرّ زمن لم يدخل فيه مفكر فرنسي معترك السياسة بهذا الشكل الجذري منذ أيام ميشال فوكو وجيل دولوز وغيرهما من المفكرين الكبار ممن كرّسوا مفهوم المثقف الفرنسي الشامل الذي يعانق تحوّلات عصره.
لكن ما الذي كتبه تود في دراسته هذه كي يجلب كل هذه الضجة الفكرية والسياسية العنيفة؟ فكرة الكِتاب الأساسية هي نزع الهالة التقديسية التي أسبغها الفرنسيون من كل الأطياف على مظاهرات 11 يناير/كانون الأول الماضي، حين خرجت عدّة مظاهرات مليونية في كبرى المدن الفرنسية بعد جرائم باريس التي استهدفت أسرة تحرير مجلة "شارلي إيبدو" الساخرة ومتجراً يهودياً، وأسفرت عن مقتل 17 شخصاً. خرجت هذه المظاهرات الضخمة التي دعت إليها الطبقة السياسية وعلى رأسها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند تحت شعار الدفاع عن حرية التعبير وتنديداً بـ"الإرهاب الإسلامي".
واعتبر تود أن 11 يناير مجرد خدعة وكذبة كبرى تخفي وراءها إيديولوجية إقصائية عنيفة. ووجه انتقاداً عنيفاً للنخبة السياسية الحاكمة التي حشدت الجموع باسم الدفاع عن مبادئ الجمهورية، حرية التعبير والعدالة والمساواة، في حين أن فرنسا، بحسب المفكر، خانت منذ عقود هذه المبادئ.
ارتكز تود على معطيات إحصائية دقيقة للبرهنة على غياب صارخ لشرائح العمال وسكّان الضواحي والمهاجرين في تظاهرات شارلي، وأن الذين خرجوا في هذه التظاهرات ينتمون في غالبيتهم الساحقة إلى النخب السياسية والثقافية والطبقة المتوسطة، وهي الشرائح نفسها التي تقبل بالفوارق الطبقية الصارخة والتمييز الاجتماعي ضدّ الشرائح الفقيرة، وتكديس المهاجرين في "غيتوهات" الضواحي المعزولة وهي الشرائح التي صارت تتبنى بلا مواربة الإسلاموفوبيا ومعاداة الأقليات المسلمة.
وأفرد تود فصلاً كاملاً في كتابه لتبيان كيف أن الغالبية الساحقة للمتماهين مع "شارلي" ينحدرون من أوساط عائلية متشبعة بالثقافة الكاثوليكية، مسجلاً أن الكنيسة المسيحية وقفت تاريخياً ضدّ مبادئ الثورة الفرنسية وقيم الجمهورية.
كما لفت تود الانتباه إلى أن تكريس العنصرية والإسلاموفوبيا نحو المسلمين هو المحرّك الأساسي لشيوع معاداة السامية واليهود في أوساط المهاجرين والشبان المسلمين والعرب من سكان الضواحي الفقيرة. ويتساءل في مقطع قوي من الكتاب: "بأيّ حق تنادي الحشود بحرية تشويه النبي محمد في رسوم كاريكاتورية، وأي منطق هذا الذي صار يجعل من تشويه صورة الإسلام والمسلمين حريةَ تعبير؟".
إنها "أوليغارشية الحشود" كما يسميها تود التي تستعرض عضلاتها على أقلية من المسلمين والعرب، وتصرّ على تحميلهم مسؤولية الأزمات التي تعصف بالمجتمع الفرنسي على كل المستويات خلف قناع "كلنا شارلي".
يقرّ تود بأن الأجواء التي واكبت تلك التظاهرات، و"الإجماع" الوطني الذي روجت له وسائل الإعلام، خلق مناخاً "توتاليتاريا" لدرجة أنه أحجم عن الإدلاء برأيه لوسائل الإعلام. وأن القرف من هذه الأجواء المشحونة جعله يشعر لأول مرة في حياته بأنه ليس فخوراً بكونه فرنسياً.
ولفت تود الانتباه إلى ضرورة التحلّي بالنسبية، ذلك أن مجموع من خرجوا في التظاهرات لم يتجاوز عددهم الإجمالي خمسة ملايين شخص لا يمكن بأي حال أن يختزلوا مجموع سكان فرنسا الذين يفوق عددهم 65 مليوناً.
ويعتبر تود أن فرنسا تعاني أزمة وجودية خانقة وكآبة روحية جارفة، سببها تقهقر المسيحية واختفاء أشكال الإيمان الميتافيزيقية وسيادة الإلحاد، وأنّ المجتمع الفرنسي يملأ حالياً هذا الفراغ الميتافيزيقي بإديولوجيا جديدة عنوانها الأساسي الإسلاموفوبيا والتهجّم على الإسلام والمسلمين.
ويقول تود "يجب أخذ الدِّين بعين الاعتبار، خصوصاً عندما يختفي"؛ ذلك أن انحسار الدين يولد فراغاً قاتلاً وظواهر عنيفة تحاول ملء هذا الفراغ، وهذا ما يحدث حالياً في المجتمع الفرنسي.
في هذا الصدد، يقول تود: "إن التركيز على الإسلام يعكس في الحقيقة وجود حاجة مرضية في أوساط الطبقات المتوسطة والعليا لتوجيه سهام الكُره في اتجاه ما، وليس فقط خوفاً من تهديد الطبقات الفقيرة. إن كره الأجانب الذي كان حِكراً في الماضي على الشرائح الشعبية صار الآن شعار النخبة والطبقات الميسورة التي تبحث عن كبش فداء من خلال الإسلام".
وجّه تود نقداً لاذعاً للاشتراكيين وللرئيس هولاند، معتبراً أن اختيارات الاشتراكيين الاقتصادية والاجتماعية - منذ وصول الرئيس السابق فرانسوا ميتران إلى الحكم عام 1983 - كانت كارثية على كل المستويات. وأنها دمّرت الطبقة العاملة وجعلت من البطالة ظاهرة بنيوية راسخة، وفسحت المجال لازدهار الأفكار العنصرية.
واعتبر أن سياسة الاشتراكيين نحو موضوع الهجرة سلبية بدرجة كبيرة، رغم الادعاءات والشعارات الموجهة للاستهلاك الإعلامي. كما أن الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين هي الشريحة الأكثر ضعفاً وهشاشة، إن أخذنا في الاعتبار التهميش والتمييز الذي يعانونه على مستوى التعليم والشغل والارتقاء الإجتماعي.
جرّت انتقادات تود هذه هجوماً واسعاً عليه من الاشتراكيين، وعلى رأسهم رئيس الوزراء مانويل فالس، ونشر الأخير مقالاً الأسبوع الماضي في الـ"لوموند"، ردّ فيه بقوة على كتاب تود. كما أفسحت الطبقة الإعلامية المجال واسعاً للشخصيات السياسية والثقافية التي شنّت هجوماً كثيفاً على الكتاب وأفكاره.
لطالما اعتُبِر تود واحداً من أهمّ المفكرين الفرنسيين المثيرين للجدل. ويعترف الكثيرون - حتى من خصومه - بالإضافة الخاصة التي حملتها كتبه بالنسبة لتحليل الظاهرة السياسية في فرنسا، إذ اعتمد على علوم الإحصاء السكاني والنظريات الأنثروبولوجية. كما يُثري تود دراساته بخليط من الأفكار الماركسية والسوسيولوجية لتحليل العلاقة الوطيدة بين النظم العائلية والبنيات الدينية والسياسية. وهذا ما يعطي لأبحاثه طابعاً خاصاً يتيح قراءة جديدة للعوامل المحددة للأيدويوجيات السائدة.
من الجدير بالذكر أن تود من أوائل المتنبئين بانهيار الاتحاد السوفييتي في كتابه "السقطة النهائية" (1976)، حين كان الباحثون يجمعون على متانة القوة السوفييتية الاقتصادية والعسكرية. كما توقّع الأزمة الاقتصادية العالمية في كتابه "ما بعد الإمبراطورية" (2002)، إذ سجّل فيه النمو المبالغ فيه للخدمات المالية والتأمينات في الاقتصاد الأميركي على حساب الصناعة، وهذا ما وقع لاحقاً حين اندلعت الأزمة المالية العالمية بعد إفلاس مصرف" ليمان براذرز" في سبتمبر 2008.