اتفاق الرياض اليمني وتنافس الحواة
من النتائج الكارثية المترتبة على التدخل الإقليمي في اليمن مصادرة القرار السياسي اليمني لصالح الفاعلين الإقليميين، بحيث أُفرغت الساحة السياسية من قوى يمنيةٍ كان من الممكن التعويل عليها في صناعة خيار وطني، بما في ذلك حل الصراعات البينية، إذ نجحت القوى المتدخلة في اليمن في تحويل القوى المحلية إلى وكلاء منزوعي القرار، وإنْ صدرتهم سياسياً، ومكّنتهم من تكريس سلطاتهم، فبعد إنضاجها دورات صراع بينية في إطار الحرب الشاملة ضد جماعة الحوثي، دفعت السعودية، بمعية حليفها الإماراتي، القوى المحلية إلى خوض معارك السيطرة لفرض سلطات أمر واقع موازية للسلطة الشرعية. وبتفتيتها السلطة الشرعية، ممثلة بالرئيس عبد ربه منصور هادي، اتجهت السعودية إلى شرعنة مخرجات إدارتها الصراعات البينية في معسكر الشرعية ومنافسيها، من خلال فرض صيغة سياسية لإدارة السلطة في جنوب اليمن، بما يضمن بقاءها وصيةً على القرار السياسي اليمني.
لا تحقق الحلول الفوقية القادمة من خارج التوافقات المحلية شراكة متكافئة، ومن ثم لا تخدم فرص إحلال السلام على المدى البعيد، ولا تخرج آلية "تسريع" تنفيذ اتفاق الرياض التي أعلنتها الرياض أخيرا عن هذا السياق، إذ تعكس دلالة "التسريع" الخفة السعودية في "سلق" ترتيبات شكلية آنية لا تقدم حلولاً، وهو ما يخفي تواطؤها في إفشال تنفيذ الشق العسكري، وفق الصيغة الأولى لاتفاق الرياض الذي كان من الممكن أن يحقق أرضيةً ملائمةً لشراكة سياسية مؤقتة، إذ تؤكد بنود آلية تنفيذ اتفاق الرياض الخلل في المقاربة السعودية للصراع في جنوب اليمن، إذ إن اجتزاء بنود الملحق العسكري لا يخلخل بنية الصراع، بل ويرتب وضعاً في مدينة عدن لصالح المجلس الانتقالي الجنوبي، حيث نصّت بنود الآلية على تخلي المجلس الجنوبي عن الإدارة الذاتية، مقابل تعيين الرئيس هادي لمحافظ ومدير أمن مدينة عدن. وكذلك تكليف رئيس الوزراء الحالي معين عبد الملك بتشكيل حكومة مناصفة بين الشمال والجنوب، وممارسة أعمالها من عدن، بالإضافة إلى خروج القوات العسكرية من المدينة، وكذلك فصل قوات الطرفين في مدينة أبين، فعلى الرغم من تسويق السعودية آلية تنفيذ اتفاق الرياض بوصفه صيغة ممكنة لإنهاء صراع فرقاء السلطة في جنوب اليمن، فإن تنفيذ الآلية يصطدم بالواقع العسكري في الجنوب، وتموضعات فرقاء الصراع التي لم تعمل السعودية على حلحلتها، بل قفزت عليها، فمن جهةٍ حصرت الآلية مشكلة الصراع في جنوب اليمن بإعلان المجلس الانتقالي الإدارة الذاتية للجنوب، فيما تكمن المشكلة في الأحزمة والقوات التابعة للمجلس التي أنتجت هذا الوضع، والتي لا بد من تفكيكها أولا قبل المضي إلى تسوية سياسية. ومن جهة ثانية، اشترطت الآلية انسحاب القوات العسكرية من محافظة عدن إلى خارجها، فيما مكّنت الآلية المجلس الانتقالي من السلطة في المدينة، ومن ثم من الصعب إجباره على سحب قواته من عدن، وترك المجال لخصومه. ومن جهة ثالثة، نصت الآلية على فصل قوات الطرفين في مدينة أبين، من دون التأكيد على ضرورة تطبيع الأوضاع السياسية والعسكرية في المدينة، في وقتٍ فشلت قوات المراقبة السعودية في وقف إطلاق النار بين المتصارعين. ومن جهة رابعة، يمثل فرض المحاصصة المناطقية بين الشمال والجنوب في الحكومة بوصفه معيارا للتمثيل السياسي، لا الكفاءة، تعطيلاً لها قبل ولادتها، ويعيق أعمالها في إدارة المناطق المحرّرة.
لا تحقق الحلول الفوقية القادمة من خارج التوافقات المحلية اليمنية شراكة متكافئة، ولا تخدم فرص إحلال السلام
في حسابات الربح، إن نصف تسوية، حتى وإن كان محكوماً عليها بالفشل، خيار يناسب الاستراتيجية السعودية في اليمن، إذ إن ذلك يمكّنها من إدارة تحالفاتها المحلية. ومن ثم، إن تنفيذ اتفاق الرياض بالنسبة لها خطوة أولى في سياق صياغة الخريطة السياسية اليمنية في المرحلة المقبلة، بما في ذلك فرض تسوية مشابهة مع جماعة الحوثي، كما أن إشرافها على تشكيل الحكومة المقبلة، وتحديد نسب التمثيل لكل مكون سياسي يمني، بما في ذلك اختيار الشخصيات السياسية، تمكّنها من استبعاد أي شخصيات سياسية معارضة لأجنداتها وأجندات حليفها الإماراتي في اليمن، بحيث تصبح الحكومة صوت السعودية السياسي والإداري في اليمن، فضلاً عن فرض رجلها الأول في اليمن، معين عبدالملك، رئيسا للحكومة، مقابل ضرب الجناح الموالي للرئيس هادي، كما أن فرض صيغة سياسية قائمة على البعد المناطقي من خلال توزيع حصص الحكومة المقبلة يكرس الفرز المناطقي، وبالتالي يخدم مصالحها.
أربك اتفاق الرياض منظومة السلطة الشرعية التقليدية، بما في ذلك تغيير طبيعة التحالفات البينية والعابرة لمعسكرات الحرب
تتباين مكاسب الفرقاء اليمنيين حيال آلية تنفيذ اتفاق الرياض في حال تنفيذها، وذلك بحسب المعادلة التي كرّستها على الأرض، بما في ذلك ثقلها السياسي أمام حلفائها وخصومها. وفي هذا السياق، استطاع المجلس الانتقالي الجنوبي فرض شروطه على منافسيه، إذ مثلت آلية تنفيذ اتفاق الرياض مكسباً سياسياً للمجلس، بفرض تنفيذ الخيار السياسي، وبقاء قواته العسكرية ورقة ضغط على السلطة الشرعية. وبموجب بنود الآلية، أصبح المجلس طرفا سياسيأ رئيسا في الحكومة المقبلة، سواء احتكر نسب تمثيل الجنوب أو شاركته قوى جنوبية أخرى موالية للرئيس هادي، إذ منحته الآلية شرعية سياسية كاملة، ليس فقط في الحكومة وإنما طرفا مفاوضا عن الجنوب في التسوية النهائية مع جماعة الحوثي. ومن جهة ثانية، تراجعه عن الإدارة الذاتية للجنوب مجرّد إجراء شكلي، لا يغير من حقيقة سيطرته السياسية والعسكرية على مناطق في الجنوب، بما فيها العاصمة عدن، بل منحته الآلية وضعا جديداً، فبينما كانت إدارته سياسية ومنقوصة من خصومه، فإنها أصبحت الآن تنفيذية بموجب الشرعية التي اكتسبها. ومن جهة ثالثة، فإن تعين الرئيس هادي محافظ مدينة شبوة السابق، أحمد حامد لملس، الذي أقاله الرئيس هادي بعد تفجّر الصراع مع المجلس الانتقالي، محافظاً لمدينة عدن، بموجب اتفاق الرياض، يشرعن لسيطرة الانتقالي على العاصمة، كونه الأمين العام للمجلس الانتقالي الجنوبي، ما يمكّنه من فرض سيطرة الانتقالي على المرافق الحكومية، كما أن عودة الحكومة، في حال تشكيلها، إلى عدن، مشروطة بموافقة الانتقالي على ذلك. ومع تعدّد المكاسب السياسية التي حصدها المجلس الانتقالي من آلية تنفيذ اتفاق الرياض، فإن هناك مخاطر قد تؤثر على مكتسباته السياسية في جنوب اليمن، إذ إن قبوله المشاركة في حكومة تحت شرعية الرئيس هادي تحوله إلى سلطة، وبالتالي لا يستطيع أن يلعب دور المعارضة، وهو ما يعني اضطلاع قوى جنوبية بهذا الدور، بما في ذلك تحميله مسؤولية تدهور الخدمات في مناطق الجنوب، ما قد يؤدي إلى ضرب شعبيته في الشارع الجنوبي. ومن جهة أخرى، قد يؤثر انخراط المجلس الانتقالي في الحكومة على تركيبته السياسية غير المتجانسة، والتي اتضحت أخيرا باستبعاد الأصوات الراديكالية من منابر الإعلام الموالية له، كما أنه لن يستطيع تمثيل كل الأطياف السياسية الموالية له في الحكومة المقبلة، ما قد يؤدّي إلى تصدّع المجلس، وتفجر الخلافات في صفوفه.
نصف تسوية، حتى وإن كان محكوماً عليها بالفشل، خيار يناسب الاستراتيجية السعودية في اليمن، إذ بمكّنها ذلك من إدارة تحالفاتها المحلية
في المقابل، أربك اتفاق الرياض منظومة السلطة الشرعية التقليدية، بما في ذلك تغيير طبيعة التحالفات البينية والعابرة لمعسكرات الحرب، إلا أن القوى السياسية المنضوية في الشرعية تبدو أفضل حالاً من رأسها، ففيما تتكئ الأحزاب على تحالفاتها البينية في جبهة خصوم حزب التجمع اليمني للإصلاح، لفرض استحقاقها السياسي في الحكومة المقبلة، فإن "الإصلاح" يعتمد على قوته العسكرية على الأرض، للحفاظ على تمثيله السياسي، بحيث لا تستطيع السعودية، وخصومه، إزاحته في الوقت الحاضر، مع محاولة خصومه حصاره سياسياً، إلا أن تنفيذ اتفاق الرياض، وفق محددات الآلية السعودية، أفقد الرئيس هادي أوراقه السياسية التي يعتمد عليها في إدارة تحالفات أنصاره ومنافسيه، إذ منح هادي حق تعيين وزارات سيادية، بما في ذلك مدير أمن مدينة عدن، اللواء أحمد محمد الحامدي، فيما خضعت التعيينات الأخرى للقرار السعودي، ما يعني تجريد هادي من صلاحياته رئيس دولة، وإنْ ظلت رمزيته غطاء تحافظ عليها السعودية لاستمرار تدخلها في اليمن، مع تصديرها شخصياتٍ معارضة لهادي، وتسويقها محلياً وإقليمياً، وكذلك تقييد الدخول والخروج من اليمن لمعارضيها من جناح هادي، ومع ضعف الرجل، وفشله في الاحتفاظ بالقرار السياسي، فإنه قد يحاول المناورة سياسياً لتجاوز القيود السعودية، من خلال اعتماده على القوى العسكرية التابعة لحزب الإصلاح، لتغيير المعادلة العسكرية في المناطق المحرّرة، لتحقيق توازن يخدم بقاءه رأسا للشرعية، مع توظيف "الإصلاح" ذلك لفرض سلطته، بالإضافة إلى منازعة المجلس الانتقالي في تمثيل الجنوب، من خلال تصدير قوى جنوبية موالية له، كتحريكه مظاهرات مؤيدة له في مدينة أبين، وحراك المؤتمر الجامع في مدينة حضرموت، فيما يوظف تكتل "أحمد الميسري – صالح الجبواني – عبد العزيز جباري"، الوزراء السابقين في الشرعية، لحشد مناصريه، وتوسيع شعبيته، فضلاً عن إدانة الأجندات السعودية - الإماراتية في اليمن، وكذلك تجنيد قوى جديدة قد تمكّنه من تحقيق مكاسب سياسية، وإنْ كانت مناورات الرئيس هادي محدودة ومشروطة بالسقف الذي وضعته السعودية لحليفها. وبالطبع تعكس أداء العاجز منزوع الأنياب.
ما بين الرياض وأبو ظبي، لا عدن ولا صنعاء، يتنقل يمنيون قليلو الحيلة لكسب رضى مموليهم، بغرض الفوز بتمثيل سياسي في الحكومة "اليمنية" المقبلة، فيما يستميت الهواة الإقليميون الفاشلون في تأبيد خراب اليمن الكبير، وترسيم معالم الفوضى التي يديرونها بذكاء.