12 سبتمبر 2024
احتجاجات الجزائر.. تحالف القوى الداعمة للرئيس
بعد وصول الاحتجاجات في مختلف مدن الجزائر ضد ترشح الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، لولاية خامسة ذروةً غير مسبوقة، يوم 8 آذار/ مارس 2019، قرّرت السلطات الجزائرية تقديم عطلة الربيع للجامعات من 21 آذار/ مارس إلى العاشر منه، وتمديدها حتى الرابع من نيسان/ أبريل؛ في سعي منها إلى احتواء الاحتجاجات التي تستمر وتتسع، للضغط على أحزاب النظام، من أجل التراجع عن ترشيح الرئيس الذي يرقد في مستشفى سويسري في حالة صحية حرجة، كما أكدت مصادر طبية..
مناورة أم تنازلات من النظام؟
منذ إعلان بوتفليقة ترشحه يوم 10 شباط/ فبراير 2019، في رسالةٍ وجهها إلى الشعب، وكانت بمنزلة برنامج انتخابي، شهدت الجزائر احتجاجاتٍ عفوية، أخذت تنتظم بداية من 22 شباط/ فبراير 2019، بهدف الضغط على النظام، لسحب ترشح الرئيس لتدهور متواصل في قدرته الجسدية على أداء مهماته، منذ أصيب بجلطة دماغية في عام 2013. مع ذلك، قرّر النظام المضي في ترشيح الرئيس، حيث قدّم وزير النقل ومدير حملة الرئيس الانتخابية، عبد الغاني زعلان، أوراق الترشيح إلى المجلس الدستوري يوم 3 آذار/ مارس 2019، وذلك
• تنظيم ندوة وطنية شاملة مباشرة بعد الانتخابات الرئاسية، لمناقشة وإعداد واعتماد إصلاحات واسعة، من شأنها إرساء أسس "النظام الجديد الإصلاحيّ للدّولة الوطنية الجزائرية".
• تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة، وفقًا للأجندة التي تعتمدها الندوة الوطنية لا يكون بوتفليقة
مترشحًا فيها، وإعداد دستور جديد، يكرّس ميلاد جمهورية جديدة.
• وضع سياسات عمومية عاجلة، كفيلة بإعادة التوزيع العادل للثروات الوطنية والقضاء على أوجه التهميش والإقصاء والفساد كافة.
• اتخاذ إجراءات فورية وفعالة، لجعل الشباب فاعلين في الحياة العامّة، ومستفيدين من التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
• مراجعة قانون الانتخابات مع التركيز على إنشاء آلية مستقلّة تتولى دون سواها تنظيم الانتخابات.
إصرار على ترشيح بوتفليقة
راهنت القوى المعارضة لترشح الرئيس، من خلال الاستمرار في الحركة الاحتجاجية، على إحداث شرخٍ داخل بنية النظام، ودفع المؤسسة العسكرية أو التحالف الرئاسي (جبهة التحرير، والتجمّع الوطني الديموقراطي، وتجمّع أمل الجزائر، والحركة الشعبية الجزائرية) إلى التخلّي عن ترشيح بوتفليقة واستبداله بشخصٍ آخر، يمكن أن يتوفر معه حد أدنى من ظروف المنافسة العادلة في الانتخابات على رئاسة البلاد. وقد أنعش التقرير الذي نقلته وكالة الأنباء الرسمية، مساء 22 شباط/ فبراير 2019، وعرضت فيه مطالب المحتجين الرافضين لعهدة رئاسية خامسة الآمال في إمكانية عدول النظام عن ترشيح بوتفليقة، لكن ذلك سرعان ما تبدّد عندما أعلنت قيادة الجيش، ممثلةً في رئيس هيئة الأركان، أحمد قايد صالح، عن موقفها السلبي من الاحتجاجات. وبالمثل عبّرت قيادات جبهة التحرير الوطني (ممثلة بأمينها العام معاذ بوشارب) والتجمّع الوطني الديموقراطي (ممثلًا برئيس الحكومة أحمد أويحيى) عن رفضها الاحتجاجات، مؤكدة حق الرئيس في الترشح للانتخابات. وقد شكلّ هذا الموقف تحدّيًا للمُحتجين؛ ما دفعهم إلى تغيير شعارهم، القاضي برفض الولاية الخامسة، نحو مطالب أكثر جذرية متعلقة بنزاهة الانتخابات وهيئاتها والتخلص من نفوذ الأوليغاركيا الحاكمة فعلًا باسم بوتفليقة، فالإصرار على ترشيح الرئيس المسن والمريض، من دون تبرير مقنع، يدفع المواطن الجزائري إلى طرح مجموعة أسئلة عن الأسباب التي تدفع النظام للتمسّك به، والقوى التي تقف وراءه، وشبكة المصالح التي تريد أن تستمر في حكم البلد من وراء الرئيس الذي بات واضحًا أنه عاجز عن قيادة البلاد.
القوى وراء الرئيس
عند وصول الرئيس بوتفليقة إلى الرئاسة عام 1999، كانت السلطة موزّعة بين رئاسة الجمهورية والجيش بشقيه؛ قيادة الأركان والمخابرات، والإدارة العامة ممثلة في الحكومة، مع أفضلية واضحة لجهاز المخابرات، الذي كان يؤدي دورًا رئيسًا في صناعة الرؤساء ورؤساء الحكومات والوزراء. لكن بوتفليقة أعلن، منذ مجيئه، أنه يريد أن يكون "رئيسًا كاملًا وليس نصف رئيس"؛ ما دفعه إلى تركيز سلطات كثيرة في يديه. لقد أخضع بوتفليقة الجيش لمنصب الرئاسة، وهذا هو الأمر الإيجابي من منظور بناء مؤسسات الدولة، لكنه، من ناحية أخرى، ركز الصلاحيات كليًّا في الرئاسة؛ ما أدى إلى مركزة كاملة للحكم إلى درجة منح القوة والنفوذ ليس فقط للرئيس، بل إلى كل من يستخدم اسم الرئيس.
1. الإدارة العامة
أعاد بوتفليقة في سنوات حكمه الأولى تركيب جهاز الإدارة الحكومية بطريقةٍ تضمن ولاءه المطلق، خصوصا بعد الخلاف الكبير الذي وقع بينه وبين رئيسي الحكومة السابقين، أحمد بن بيتور وعلي بن فليس، وغدا جهاز الإدارة في عهد بوتفليقة مكونًا في غالبيته من ولاة سابقين
2. طبقة رجال الأعمال
برز في عهد الرئيس بوتفليقة مجموعة من الأثرياء الجدد، استفادوا من قربهم من محيط الرئيس، خصوصا شقيقه السعيد بوتفليقة، في الفترة التي شهدت فيها أسعار النفط ارتفاعًا كبيرًا 2006-2014، وتضخمت معها إيرادات الدولة المالية، فسيطروا على قطاعاتٍ واسعة من الاقتصاد. وقد استفاد هذا القطاع الطبقي من الأوليغاركيا الحاكمة من القروض السخية التي حصل عليها من الدولة، ومن شراء العملة الصعبة من البنوك الحكومية دون سقف تقريبًا وبالسعر الرسمي، كما استفاد من الإعفاءات الضريبية والجمركية. ساهم هذا الوضع في إيجاد قطاع اقتصادي جديد، يتوسط القطاعين الخاص والعام، وهو ما يمكن تسميته بالقطاع الخاص العمومي، فهو خاص من حيث ملكيته وبنيته الإدارية والقانونية، وعام من حيث مصادر تمويله؛ لأن كل أنشطته الاقتصادية كانت ممولة من خزينة الدولة ويعتاش على علاقة زبونية بالدولة ومشاريعها. وعلى الرغم من أن هذا الوضع كان موجودًا قبل مجيء بوتفليقة، فإنه اتسع في عهده الذي سمح فيه للموالين من رجال الأعمال بممارسة أدوار سياسية وامتلاك وسائل إعلامية كالصحف والقنوات التلفزيونية. وقد شارك عدد كبير من رجال الأعمال الذين شكلوا
وقد اتضحت قدرة المنتدى في السيطرة على البرلمان، وعلى أحزاب التحالف الحاكم، وعلى جهاز الإدارة، في الصراع الذي نشب في صيف 2019 بين الوزير الأول، المعين حديثًا آنذاك، عبد المجيد تبون، ومنتدى رجال الأعمال، وانتهى، كما هو معروف، بإقالة سريعة للوزير الأول، بعد أقل من ثلاثة أشهر على توليه المنصب، واستبداله بأحمد أويحيى.
3. المؤسسة العسكرية
خلال السنوات العشرين الماضية التي قضاها في السلطة، تمكّن الرئيس بوتفليقة من فرض سيطرة شبه كاملة على الجيش، بعد أن تخلص من بقايا جنرالات انقلاب 1992. وقد نجح في تحقيق ما فشل فيه أربعة رؤساء سابقين، خسروا جميعًا معاركهم مع جماعة الجنرالات، إذ أقيل الشاذلي بن جديد، واغتيل محمد بوضياف، وأنهيت مهمات علي كافي، ودفع اليمين زروال إلى التنحي قبل نهاية عهدته. من الناحية التنظيمية، سمحت هذه الحركة للرئيس بإعادة هيكلة قيادة الأركان، من خلال تطعيمها بضباط من اختياره ومن الموالين له شخصيًّا، وفي مقدمتهم الجنرال القايد صالح، الذي أصبح ممثل الرئيس في الجيش، والحريص على التأكّد من ولاء قطاعاته للرئاسة. وفي هذا السياق، يمكن وضع حركة الإعفاءات التي شملت عددًا كبيرًا من كبار جنرالات الجيش في عام 2018، ومست أيضًا أقوى الأجهزة الأمنية.
إضافة إلى إحكام قبضته على الجيش، أعاد الرئيس هيكلة جهاز المخابرات. والمعروف أن هذا الجهاز كان طوال الفترة التي سبقت مجيء بوتفليقة صاحب السلطة الفعلية في البلاد وصندوق
4. التحالف الرئاسي
استمر الرئيس في الاعتماد على مجموعة من الأحزاب السياسية التي تمثل جسرًا ضروريًّا للعلاقة بالجمهور والمجتمعات المحلية، فكان إنشاء التحالف الرئاسي بمنزلة هذا الجسر؛ ويتكون هذا التحالف من أربعة أحزاب، هي جبهة التحرير الوطني، والتجمّع الوطني الديموقراطي، وتجمّع أمل الجزائر، والحركة الشعبية الجزائرية. وتعمل قيادات هذه الأحزاب على التأكد من استمرار انضواء قواعدها في خانة دعم الرئيس، ومحاولة إجهاض أي تحرّك ضد ترشّحه، وإن ظهرت أخيرا بوادر على وجود تمرد وتململ داخل أحزاب السلطة وانحياز إلى مطالب المحتجين.
مآلات الانتفاضة
لقد تمكّن الرئيس بوتفليقة مع بداية العهدة الرئاسية الرابعة من تركيز أكثر مصادر السلطة في يديه، وإنشاء شبكة واسعة من المستفيدين وأصحاب المصالح في محيطه. لكن مرضه وعجزه عن أداء مهماته يفتحان المجال أمام حصول تناقضاتٍ بين مراكز القوى المتنافسة داخل بنية السلطة، والتي كان يجمعها وجود الرئيس واستمراره في أداء مهماته على رأسها.
ومع الانتفاضة الشعبية الجزائرية ضد المحاولة المفضوحة للنخبة الحاكمة غير المنتخبة
أما التيار الثاني، فيدعو إلى انطلاقةٍ جديدةٍ من خلال ترشيح وجه آخر من وجوه النظام، ما دام هذا ممكنًا، فهذا الخيار يرضي الشعب بمجرد تغيير المرشح من جهة، ومن جهة أخرى يحفظ استمرارية النظام القائم، ونخبه الحاكمة، واستمرار شبكة المصالح التي ترتبط به. ويضم هذا التيار جهاز المخابرات الذي حجّمه بوتفليقة. وقد تغير المؤسسة العسكرية موقفها إذا اتضح نهائيًّا فشل إمكانية استمرار بوتفليقة في السباق الرئاسي. وسوف يعتمد انتصار أي من هذين التيارين على قدرة الحركة الاحتجاجية على الحشد والاستمرار والتصعيد، والأهم من هذا وذلك التنظيم والتفاعل مع القوى السياسية المعارضة المنظمة. كما أن مواجهة سيناريو الالتفاف على مطالب المحتجين بترشيح ممثل آخر للنخبة الحاكمة، من دون إجراء انتخاباتٍ نزيهةٍ تعدديةٍ وديمقراطية فعلًا، سوف يعتمد على قدرة المعارضة على الاتفاق على مرشح رئاسي واحد، يتبنّى برنامجًا إصلاحيًّا ديمقراطيًّا، وذلك في حال قرّر النظام إرجاء الانتخابات، وسحب ترشيح بوتفليقة، والنزول إلى الانتخابات بوجه آخر.
خاتمة
مرت الجزائر بما يشبه الحرب الأهلية؛ ولا شك أن ذاكرتها في أذهان الجزائريين ونفوسهم من أهم الدوافع لحفظ النظام والامتناع عن استخدام العنف.
وفي المرحلة التي تلت الحرب الأهلية، أعيد بناء مؤسسات الدولة، وتأسّست تعدّدية حزبية معقولة وحرية تعبير نسبية، ونهض المجتمع المدني الجزائري. وكان للرئيس بوتفليقة دور مهم في الإصلاحات، وفي إلحاق المستوى العسكري بالسياسي. وقد استعرضنا أعلاه نشوء أوليغاركيا حاكمة حول الرئيس من المجموعة الملتفّة حوله، والمؤلّفة من بيروقراطية جهاز الدولة، المتداخلة مع البيروقراطية الحزبية ورجال الأعمال المتنفذين، وجهاز الأمن. وأصبحت هذه النخبة الحاكمة عائقًا أمام تطور الجزائر اقتصاديًّا واجتماعيًّا، وفي السياسة الخارجية، إلى درجة محاولة فرض مرشح غيّبه المرض لرئاسة هذا البلد الكبير والعريق.
آن أوان التغيير في الجزائر. ويمكن أن يكون سلميًّا ومؤسسيًّا، وعن طريق حوار بين النخب السياسية في الأحزاب الحاكمة والمعارضة والأوساط الشعبية الجزائرية، والوصول إلى انتخاباتٍ نزيهة تعددية فعلًا. لقد قطع الجزائريون شوطًا طويلًا في الإصلاحات، كما وصلوا إلى درجاتٍ من الوعي المدني، أظهرها الحراك السلمي. وقد آن الأوان للتغيير الديمقراطي.