طغت احتجاجات العسكريين المتقاعدين والمعطوبين في عمليات مكافحة الإرهاب وجنود الاحتياط على سطح الأحداث في الجزائر. وتصاعد الموقف الأمني وانزلقت الأوضاع إلى حالة مواجهة مفتوحة بين العسكريين وقوات الدرك والأمن منذ خمسة أيام، شرقي العاصمة الجزائرية، في ظل صمت مريب من وزارة الدفاع والسلطة السياسية. وأمس انسحب العسكريون المتقاعدون من الساحات ومنحوا السلطات فرصة لمعالجة الأمر، مهددين بالعودة للاحتجاج في حال لم تُلبّ مطالبهم.
في هذا السياق، تمكن محتجون من تنظيم مسيرة في العاصمة الجزائرية، للمرة الأولى منذ مسيرة عروش القبائل الأمازيغ في يونيو/حزيران 2001. وأغلقت السلطات العاصمة في وجه أي احتجاج ونفذت حظراً أمنياً على أي حركة احتجاجية، لكن العسكريين المتقاعدين والمعوقين وجنود الاحتياط، نجحوا في كسر هذا الطوق، ووصلوا إلى منطقة قريبة من وسط العاصمة، رغم التعزيزات الأمنية الكبيرة التي نشرتها السلطات لمنع تقدمهم. وشدّدت السلطات الجزائرية منذ أيام مراقبة مداخل العاصمة والتدقيق في الهويات لمنع التحاق مزيد من العسكريين السابقين بموقع التجمع في حي حوش المخفي في الضاحية الشرقية للعاصمة الجزائرية، فيما أغلقت بشكل كامل المدخل الشرقي للعاصمة الجزائرية على مستوى منطقة مطار الجزائر الدولي، بعد تقدم الآلاف من العسكريين السابقين باتجاه العاصمة.
وأبدت السلطات انزعاجها من تطورات الملف الذي وُصف بـ"المُحرج سياسياً وأخلاقياً بالنسبة للسلطة"، وسعت إلى تقليص حجم التعاطي الإعلامي مع احتجاج العسكريين، إذ لوحظ تجاهل كامل لهذه الاحتجاجات من قبل القنوات والصحف الحكومية، وتفاعل طفيف من قبل القنوات والصحف المستقلة بفعل الضغوط التي تمارسها السلطات. غير أن المحتجين استعانوا في المقابل بوسائط التواصل الاجتماعي لنقل قضيتهم إلى الرأي العام الداخلي، وهي من القضايا العالقة من الأزمة الأمنية الدامية التي شهدتها فترة التسعينات في الجزائر. ويعاني أغلب العسكريين المحتجين من عاهات مستدامة، ويعتبرون أن "الدولة تخلت عنهم بعدما أدوا واجبهم في الحفاظ على الجمهورية".
في هذا الإطار، قال المنسق العام لتنسيقية العسكريين المتقاعدين والمعطوبين وجنود الاحتياط، عيسى بوزرارة لـ"العربي الجديد" إنه "من المؤسف أن تتخلى عنا الدولة ونحن الذين دافعنا عن الوطن، هل يكون هذا مصيرنا وتطلق علينا القنابل المسيلة للدموع ويتحرش بنا الدرك والأمن، وأغلبنا بأرجل اصطناعية، رغم تأكيدنا على سلمية احتجاجنا وشرعية مطالبنا؟". وأضاف أنه "لا يمكن لأي منا أن يعيش في ظلّ غلاء الأسعار بـ27 ألف دينار شهرياً (180 دولارا). خرجنا نطالب بحقنا وليس بشيء آخر". وأضاف المتحدث باسم التنسيقية، مروان بصافة: "هل ترى كيف يتوسد بعضنا رجله الاصطناعية لينام؟ كيف يمكن لهذه السلطة أن تمارس علينا القمع ونحن عزّل ومعطوبون؟ المحتجون من العمال أو الأطباء يرفعون الشعارات، نحن نرفع أرجلنا الاصطناعية، بعدما فقدنا أرجلنا في الغابات لملاحقة الإرهابيين قبل سنوات".
وأبدت أطراف عدة مخاوفها من التأثيرات السياسية لاحتجاجات العسكريين السابقين، خصوصاً في وضع قوات الدرك، وهو جهاز تابع لوزارة الدفاع، في مواجهة مع زملاء لهم سابقين، وإعطاء مؤشر سلبي على تخلي الدولة عن المدافعين عن الجمهورية في الظروف العصيبة، إضافة إلى حالة التعاطف الشعبي مع المحتجين في زيادة منسوب الاحتقان الاجتماعي.
وطالبت هذه الأطراف بـ"تدخل عاجل من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لتهدئة الأوضاع وتجنب حالة انزلاق أمني في حال تطور الأمور وتصعيد الموقف الأمني بين العسكريين السابقين وقوات الشرطة والدرك". وقال النائب في البرلمان عن حزب العمال المعارض إساعيل قوادرية، لـ"العربي الجديد" إن "تعاطي السلطة مع ملف العسكريين السابقين، مؤشر فشل سياسي تحاول السلطات معالجته بطريقة أمنية والسلطة فاشلة، تقمع الذين ضحوا تضحية تركت بصمتها على أجسادهم إلى غاية اليوم، ما يحدث مع متقاعدي الجبش ومعطوبيه أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه قمع وحشي لفئة مظلومة خرجت للشارع للمطالبة بحقوقها بطريقة سلمية بعد أن أوصدت كل أبواب الحوار في وجوهها".
وطالب النائب عن كتلة العدالة والتنمية حسن عريبي، الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بالتدخل العاجل لإنهاء المأزق. وقال عريبي لـ "العربي الجديد" إن "الوضع خطير على مستويين، على المستوى الأمني لأن عدد المحتجين كبير وميزتهم أنهم عسكريون سابقون، بمعنى أنهم معتادون على المواجهة وهذا قد يسبب صداماً عنيفاً بينهم وبين قوات الأمن. وعلى الصعيد السياسي، يعيد الموضوع طرح ملفات عالقة من زمن العشرية السوداء وعشية الاستحقاق الرئاسي ويضر بسمعة الدولة، من ناحية أنها تعطي مؤشراً على تخلي الدولة عن آلاف العسكريين الذين دافعوا عن الجمهورية في فترة عصيبة".
لكن السلطات السياسية ممثلة في بوتفليقة أو الحكومة، أو العسكرية ممثلة في قيادة أركان الجيش ووزارة الدفاع المشرفة على صندوق المعاشات والتعويضات العسكرية في الجزائر، لم تعلن حتى الآن عن أي موقف ولم تتخذ أية خطوة من شأنها تهدئة الأوضاع، فيما كانت وزارة الدفاع الجزائرية، المعنية بقضية العسكريين السابقين، قد اكتفت بإصدار بيان يتيم قبل تسعة أشهر، في شهر يناير/كانون الثاني الماضي بشأن الملف، واتهمت فيه العسكريين المحتجين بـ"محاولة مغالطة الرأي العام وزرع الشك وسط الرأي العام الوطني، والقيام بسلوكات غير قانونية". وقالت وزارة الدفاع حينها إن "هؤلاء يقدمون أنفسهم كضحايا هضمت حقوقهم الاجتماعية والمادية ويستعملون الشارع كوسيلة ضغط لفرض منطقهم". وتعهدت في المقابل بـ"تسوية المطالب وفقاً لقانون المعاشات العسكرية المعدل في عام 2013".
والعسكريون المحتجون هم من المتقاعدين من الجيش والمعطوبون الذين تعرضوا لإصابات وعاهات خلال مشاركتهم في العمليات القتالية لمكافحة الإرهاب، فضلاً عن جنود الاحتياط الذين أعيد استدعاؤهم للخدمة العسكرية في منتصف التسعينات، خلال الأزمة الأمنية التي شهدتها البلاد، إضافة إلى العسكريين الذين تم فصلهم من الجيش لأسباب مختلفة. ويرفع المحتجون لائحة مطالب تضم 37 مطلباً، أبرزها إعادة النظر في المعاش وتوحيد منحة العجز، وتعديل قانون المعاشات العسكرية، خصوصاً المتعلقة بالاستفادة من التعويضات عن الأمراض الموروثة، واستحداث منحة مكافحة الإرهاب بالنسبة للذين شاركوا في الحرب ضد الإرهاب، والاستفادة من كل المزايا والتحفيزات التي يستفيد منها المحارب، وحق الاستفادة من حصص الشقق السكنية الاجتماعية التي تمنحها السلطات مجانا لذوي الدخل المحدود.