ثلاثة أسس رئيسية عاد رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو وكرّرها أمس الاثنين، قبيل توجهه إلى مطار بن غوريون، في طريقه للاحتفال بانتصار إسرائيل المعنوي على الأمة العربية: سلام مقابل السلام، وسلام من منطلق القوة، وسلام الاستثمارات الهائلة الآتية لإسرائيل. هذه باختصار هي الثوابت التاريخية لليمين الإسرائيلي، منذ مفاوضات كامب ديفيد بين مصر أنور السادات ومناحيم بيغن، والتي ثبت فيها بيغن على ثوابت الحركة الصهيونية التنقيحية، وتراجع فيها السادات عن الحق الفلسطيني بالدولة المستقلة، مكتفياً بالطرح الإسرائيلي بحكمٍ ذاتي واسع الصلاحيات. وهو نفس ما قدّمه إسحاق رابين (ممثل الصهيونية العُمّالية اليسارية) في اتفاق أوسلو، وفقاً لآخر خطاب له أمام الكنيست في أكتوبر/تشرين الأول 1995، عندما أكد أن الفلسطينيين لن يحصلوا على دولة مستقلة كاملة السيادة، وأن إسرائيل لن تنسحب من غور الأردن، ولا من قمم سلسلة جبال الضفة الغربية. أربعون عاماً بين أول استسلام عربي للموقف الإسرائيلي، قوبل بغضب عربي شعبي ورسمي، وبين حفلات الانضمام والاستسلام التي ستشهدها العاصمة الأميركية مساء اليوم الثلاثاء، في مشهد عبثي لامتهان إرادة الشعوب العربية وبيعها عربوناً لصداقة المحتل الإسرائيلي، الذي لا يزال يصر على شرط بقائه متفوقاً عسكرياً على الدول العربية قاطبة.
لا يزال اتفاقا التطبيع بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين، غامضي المعالم والمضامين
والأنكى من ذلك، أن اتفاقي التطبيع مع الإمارات والبحرين، اللذين سيُوقّعان اليوم، لا يزالان غامضي المعالم والمضامين، لدرجة لا يعرف حتى الإسرائيليون أنفسهم هل يطلقون عليهما اسم اتفاق سلام أم اتفاق تطبيع، أم هو إشهار لتطبيع طويل السنوات، وإنهاء لحالة لا حرب ولا سلام، مثل ما وصفه أمس وزير الطاقة الإسرائيلي، يوفال شطاينتس. يفتح توقيع الاتفاقين مساء اليوم، الباب على مصراعيه، وإن كان مشرعاً من قبل أصلاً، أمام انضمام دول عربية إضافية إلى اتفاقيات صلح منفردة مع دولة الاحتلال ذكر منها شطاينتس: عُمان والمغرب وتشاد والسودان والسعودية، بعد قطع كل علاقة لهذه الأنظمة بفلسطين وقضيتها، وإن ادعت غير ذلك.
لكنّ اتفاقي اليوم، يشكلان في واقعهما طعنةً، ليس في ظهر الشعب الفلسطيني، بل في قلبه مباشرة، من دون تردد ولا خجل، بل بمكابرة من تأخذه العزة بالإثم، ويفتحان الطريق أيضاً، ليس فقط لاستهداف فلسطين وتصفية قضيتها، بل أيضاً لإرغام من بقي من العرب خارج حلقات التطبيع، لدخول حظيرة التطبيع، بمعزل عن قضية فلسطين، ولكن أيضاً على حساب حقوقه التاريخية، كما هو الحال مع لبنان. إذ تستغل الولايات المتحدة انفجار مرفأ بيروت أيضاً، لمحاولة إرغام لبنان ليس فقط على القبول بوصاية جديدة عليه، وإنما أيضاً بإنهاء "ملف ترسيم الحدود" مع إسرائيل، مع أن الأخيرة تواصل احتلال جزء من أراضيه في الجنوب، وتطمح بحصّة في مياه بحره، للاستيلاء على حقول الغاز التابعة له في البحر المتوسط.
يكرس الاتفاقان اليوم، مع ما سبقهما من اتفاقي الصلح مع الأردن ومصر، موت "الوطن العربي"، مقابل ولادة "الشرق الأوسط الجديد". هذا هو المصطلح الأصح تداوله وفق رؤيا الصهيونية بكل أجنحتها وأطيافها، كي لا تتذكر شعوبه عروبتها، ولا تتذكر وجود كيان أقيم على أراضٍ عربية. وبهذا، فهو يرسم تحالفات جديدة معلنة، تحالف تنضوي عبره الدول العربية، التي لا تزال تملك "جامعة عربية"، تحت جامعة جديدة، هي جامعة إسرائيل، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
ستكون إسرائيل واحتياجاتها من الآن فصاعداً، الاعتبار الرئيسي في سياسات دول الحلف الجديد، وهو ما نلمسه مثلاً في سياسات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تجاه قطاع غزة المحاصر، ومشاركته الفعلية في الحصار عبر الإغلاق الدائم لمعبر رفح.
لم يكن ممكناً تأسيس الحلف الاستراتيجي الجديد، قبل شيطنة شعبين مسلمين في المنطقة، هما إيران وتركيا، وتحويلهما إلى العدو الأول لأنظمة الحلف الجديد، بما يبرر لها إدارة ظهرها لعمقها وتاريخها العربي والإسلامي، وهي تستقبل وتتطلع إلى مستقبلها الإسرائيلي، وفق ما جاد به السفير الإماراتي لدى الولايات المتحدة يوسف العتيبة في مقالته التي نشرها في "يديعوت أحرونوت"، عندما أعلن "نحن نتطلع للمستقبل، وهناك نجد إسرائيل".
ولم يكن للحلف الجديد أن يولد أيضاً من دون قتل ثورات الربيع العربي، ومن دون تسيير وتنفيذ الانقلابات المضادة، وتحويلها، كما في سورية وليبيا، إلى حرب استنزاف أهلية تضمن على الأقل تحييد هذه الدول وشعوبها، وتأكل خيراتها ومواردها.
هذه هي المعادلة الجديدة في الشرق الأوسط، وهي لن تقف عند انضمام دول ومملكات الخليج وتشاد والسودان والمغرب، للحلف الاستراتيجي الجديد مع إسرائيل، بل ستمتد للتحكم بمصائر الشعوب العربية، وتطويعها لأطماع دولة الاحتلال، وخطوطها الحمراء التي لا فكاك منها بعد الوقوع في شباكها.
يتباهى نتنياهو بأن مفاوضات صلح مع دولة عربية، هي البحرين، لم تأخذ أكثر من 29 يوماً
ينتصر نتنياهو وخطه العقائدي الصهيوني بمؤازرة إدارة دونالد ترامب ومساعدة الدول العربية، في توقيت لم يكن يحلم به، وبسهولة مفرطة تجعله يتباهى بأن مفاوضات صلح مع دولة عربية، هي البحرين، لم تأخذ أكثر من 29 يوماً، لأنه صلح يقوم على منطق القوة، القوة الإسرائيلية ثم التسليم بشروطها، سلام مقابل سلام، ولعله بالأساس سلام مقابل بقاء الأنظمة والعروش.