تواجه الباحثة في مجال الصحة الإنجابية عيشتا سيديا، رئيسة منظمة صحتك أولاً، المعنية بالتوعية ضد أمراض النساء، حرجاً شديداً عندما يطلب أصدقاء وأقارب استخراج شهادة عطلة طبية تبرر غيابهم عن العمل لمدة زمنية محددة، بحكم ارتباطها بعلاقات تعاون منذ 5 سنوات مع فاعلين كثر في ميدان الصحة، بينهم أطباء عموم وأخصائيون ما يجعلها ترفض كثيرا التجاوب مع مطالبهم، لكنها اضطرت في بعض الأحيان للاستجابة لهم كما تقول لـ"العربي الجديد"، مضيفة أنها وفرت شهادة عطلة عن طريق طبيب كان يعمل في المركز الوطني للأنكلوجيا، لمصلحة صديقتها المعلمة، من أجل استعادة جزء من راتبها تم حجبه بسبب غيابها الذي سجلته إدارة المدرسة التي تعمل بها.
وفي مرة تالية، وجدت عيشتا نفسها محرجة من أحد الأقارب الذي يريد عذرا طبيا لأحد الطلبة الموريتانيين في الخارج، ففعلت ذلك من خلال الطبيب ذاته.
ما حدث مع الباحثة عيشتا تكرر مع نزيهة منت ناصر الدين، الموظفة في مؤسسة المعاينة للإنتاج والإشهار الخاصة بالعاصمة الموريتانية نواكشوط، والتي لم تجد صعوبة في الحصول على شهادات عطل طبية مزيفة من خلال علاقاتها في مجال الصحة العمومية، لكنها لا تطلبها لنفسها للتغيب عن العمل، كما تقول لـ"العربي الجديد"، بل توفرها لأقاربها، متى طلبوا ذلك، إذ سبق أن وفرت 4 شهادات مرضية غير قانونية، مضيفة أن الطبيب الذي وافق بعد يومين من الاتصالات للتوقيع على آخر عطلة طبية أبدى تخوفه من العواقب المترتبة على اختلاق المبررات الطبية غير الحقيقية.
حالات مضبوطة
وثّق معد التحقيق ثلاث شهادات طبية مزيفة حصل عليها ثلاثة موظفين في مؤسسات حكومية في نواكشوط خلال عام 2017، بالإضافة إلى تأكيد سبعة مراجعين في وزارات العلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني والصحة والتعليم ومؤسسات خاصة على أن هذه الظاهرة سارية بتحفظ شديد وسرية تامة، إذ تعمل الجهات المسؤولة على مواجهتها بعد أن حذّر السلك الوطني للأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان في موريتانيا، كوادره من خطورة التساهل في إصدار الشهادات الطبية بكامل أنواعها، وخصوصاً إصدار شهادة للبيع لمجهول، وربما التكسب منها، وأعلن تقديمه شكوى للسلطات العمومية الصحية والأمنية، للقيام بتحقيق في الأمر وتقديم كل المخالفين للقانون. ودعا السلك جميع الأطباء إلى اليقظة والإبلاغ عن أي محل مشتبه به في إبريل/نيسان من عام 2015، الأمر الذي أدى إلى عمليات ضبط متوالية لمتورطين أحدثها في نواذيبو العاصمة الاقتصادية لموريتانيا، إذ جرى ضبط أربع حالات تزوير لختم طبيب عام على شهادات طبية لمصلحة عدد من الموظفين في المدينة خلال الفترة من مارس/آذار 2016 حتى فبراير/شباط بحسب ميمونة منت سيدي ممرضة في مركز الاستطباب بالمدينة.
وفي بداية عام 2018، تم التبليغ عن ضبط ختم طبيب عام عند ممرض يستخدمه لتزوير شهادات العطل الطبية، وحظيت القضية باهتمام كبير على مستوى الرأي العام المحلي في المدينة بحسب الثلاثيني محمد مصطفى السيد، المقرب من الطبيب الذي تم تزوير ختمه ورفض التصريح بعد تسوية القضية وديا.
الثقة المفقودة
يقر الدكتور المصطفى ولد إبراهيم، الأمين العام للاتحاد العام للعمل والصحة، بوجود شهادات عطل طبية مزورة تحت الطلب عند بعض المشافي العمومية في نواكشوط.
وتتفق الدكتورة نورة بنت محمدو ولد أباه، من قسم الحالات المستعجلة في مركز الاستطباب الوطني الحكومي في العاصمة الموريتانية، مع ما قاله الدكتور ولد إبراهيم، قائلة "العطل الطبية ليست تحت الطلب في الحالة الطبيعية، إذ إن شهادة العطل الطبية تتعلق بحالات مرضية، يشخصها الطبيب بشكل دقيق، ويحدد مستوى معاناة الشخص من مرض ما، ويحدد أيضا المدة التي تستدعيها الحالة" لكنّ الأمر لا يتم هكذا في حالة مخالفة القانون، كما يؤكد الوزير الأول الموريتاني السابق يحي ولد أحمد الوقف، والذي أشار إلى وجود تجاوزات لهذه الخطوات، في حال تورط بعض العاملين في الكادر الطبي، في منح شهادات عطل طبية مزيفة قائلا لـ"العربي الجديد": "الظاهرة موجودة، لكن لا توجد أرقام رسمية متداولة تقدر حجم شهادات العطل الطبية التي تم الحصول عليها تحت الطلب خلال السنوات الماضية".
وأضاف المسؤول الموريتاني السابق الذي عرفت فترة رئاسته القصيرة للحكومة في عام 2008 محاولات إصلاح وضبط للعمل الإداري، بعد انتخاب أول رئيس موريتاني على إثر مرحلة انتقالية كبديل للأحكام العسكرية المتعاقبة منذ 1978: "إداريا لا يمكن التعقيب على رأي الطبيب فهو مثل رأي القاضي، لذلك فإن محاربة الشهادات المزورة منوطة بمهنية الطبيب وعدم فساد الموظفين، وفي مجتمعات لا تزال العلاقات الاجتماعية فيها مؤثرة يشكل الموضوع صعوبة حقيقية".
مخالفة القانون
ينص القانون الجنائي الموريتاني رقم 162ــ 83 الصادر بتاريخ 9 يوليو/تموز 1983 في مادته 155 على "عقوبة بالحبس من سنة على الأقل إلى ثلاث سنوات على الأكثر لكل شخص اصطنع باسم طبيب أو جراح أو غيرهما، من مأموري الصحة شهادة مرضية أو شهادة بوجود عجز، وذلك بقصد إعفاء نفسه، أو غيره من أية خدمة عمومية"، كما يوضح المحامي الموريتاني محمد المامي ولد مولاي اعل، والذي قال لـ"العربي الجديد" إن القانون الجنائي صارم في موضوع العطل الطبية غير الخاضعة للمعايير القانونية، غير أن هذا القانون الصارم يتجاوزه العامل بكل سهولة، حين يحصل على شهادة عطلة طبية مزيفة من خلال علاقته بعامل في قطاع الصحة، كما يقول لبات ولد أيتاه، المدير العام لمؤسسة "أشغال" الخاصة في نواكشوط، مضيفا أنه في ظل غياب الرقابة الداخلية في العديد من المشافي العمومية والخصوصية تعاني شركته من سهولة تقديم بعض عمالها للعطل الطبية المزورة.
ولد أيتاه الذي تقدم مؤسسته خدمات لوجستية للمؤسسات الحكومية والخاصة يعتقد أن العطل الطبية المزيفة تؤثر على مستوى الإنتاج إذ يستغلها بعضهم في التغيب عن العمل، ومن دون أن يكون بإمكان مسؤولي الشركة محاسبته، قائلا لـ"العربي الجديد" أن مؤسسته تشغل 137 عاملا بينهم 40 عاملا بدوام جزئي، مضيفا أن مؤسسته سجلت 42 عطلة طبية للعمال خلال الربع الأخير من 2017، ويعتقد ولد أيتاه أن "هذه الوضعية مؤسفة، لأنه من الأكيد أن أكثر من نسبة كبيرة من هذه العطل مزورة على الأرجح"، "لكنه يقول إن الكثير من الشركات بدأت تتخذ إجراءات صارمة في هذا الصدد، أبرزها اعتماد طبيب واحد يُعالج عنده العاملون فيها ومنحهم شهادات عطل طبية إذا اقتضت الحاجة، تفاديا للجوء العمال لعلاقاتهم الشخصية للحصول على عطلة طبية مزورة".
غياب الرقابة الحكومية
التقى معدّ التحقيق بمدير المصادر البشرية في وزارة الصحة الموريتانية، سيد أحمد ولد الدحدي، في مكتبه، واعتذر لعدم جاهزيته في اليوم نفسه، على حد قوله، لكنه أحالنا إلى عبد الله ولد التقي، رئيس مصلحة التكوين في وزارة الصحة الموريتانية، والذي وجّه سؤالاً له، عما إذا كانت الوزارة تتخذ إجراءات إزاء تزوير شهادات العطل الطبية في المشافي العمومية والخاصة؟ فردّ بالقول: "لا أعرف شيئا بهذا الخصوص"، كما تواصل معد التحقيق مع محمد محمود محمد أحمد، المكلف بمهمة في وزارة العلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني، وسأله إن كانت الوزارة قد سجلت حالات من تزوير شهادات العطل الطبية؟ وكيف تعاملت معها؟ فلم يرد المسؤول بأكثر من التالي: "لا علم لي بحيثيات الموضوع"، لكن الدكتور عبد الله ولد منيه رئيس السلك الوطني للأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان، يقرّ بوجود تزوير شهادات عطل طبية مؤكداً لـ"العربي الجديد" أن السلك أصدر تعميماً من قبل يحذر فيه من التساهل في منح شهادات العطل الطبية المزورة بعد رصده بيع شهادات طبية مزوّرة، قائلا "إذا ما تم إبلاغ السلك حول متورطين في تلك الظاهرة، سيتحرك في إجراءات عقابية، كون السلك هيئة رقابية شبه حكومية وتتسع صلاحياتها من توبيخ المتجاوزين إلى توقيفهم عن العمل".