لن يكون صعباً التنبّه إلى الارتباك الكبير، الذي شهدته الحفلة الـ89 لجوائز "أوسكار" الهوليوودية، التي تمّ توزيعها مساء الأحد، 26 فبراير/ شباط 2017. والارتباك لن يكون محدّداً بأخطاء مرافقة لإعلان النتائج، وللحفلة بحدّ ذاتها، بل بالنتائج نفسها، إذْ بدت "أكاديمية فنون الصورة المتحركة وعلومها" أشبه بتائه بين رغبة في تكريم إنجازات سينمائية، ونفض صفة العنصرية عنها، ومواجهة "زمن دونالد ترامب" وخطابه الشعبوي العنصري.
وإذْ حاولت الأكاديمية التوفيق بين الجوانب المختلفة للنتائج النهائية، إلّا أن الغلبة للسياسة واضحة المعالم. وهذا لن يبقى أسير جائزة دون غيرها، ولن يكون حكراً على منح "البائع"، للإيرانيّ أصغر فرهادي، "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي، بعد القرار العنصريّ الذي اتّخذه الرئيس الأميركي بحقّ شعوبٍ "ممنوعة" من دخول الأراضي الأميركية، بسبب انتماء ديني أو إثني، بينها إيران. خصوصاً أن هذا الفيلم لا يُعتَبر مؤهّلاً كلّياً للفوز، في ظلّ منافسة جدّية مع فيلمين اثنين على الأقلّ، في الفئة نفسها: الألماني "توني إردمان" لمارِن آدي، والأسترالي "تانا" للثنائي مارتن باتلر وبانتلاي دين.
ذلك أن التوفيق المذكور ظاهرٌ في نتائج أخرى، بمنح أفلام معنية بالسود جوائز، وبتكريم فيلم يستعيد عصراً ذهبياً للسينما الغنائية بعدد من الجوائز، أقلّ من نصف الترشيحات. وهذا متمثلٌ بمنح "موونلايت" لباري جانكنز 3 تماثيل ذهبية، في فئات أفضل فيلم، لكلّ من دايد غاردنر وجيريمي كلاينر وآديل رومنسكي، وأفضل ممثل في دور ثان لماهرشالا علي، وأفضل سيناريو مقتبس لجانكنز نفسه، المتعاون على اقتباسه مع كاتب المسرحية الأصلية، "على ضوء القمر، يظهر السود باللون الأزرق"، تارل آلفن ماك كراناي.
والفيلم يتابع 3 مراحل من سيرة شاب أفرو أميركي في ميامي، يسعى جاهداً إلى حماية حريته الشخصية في ميوله المثلية، في مجتمع رافض. وهذا على نقيض الفيلم الموسيقي الغنائي "لا لا لاند" لداميان شازيل، الذي يعود إلى حقبة موسيقية هوليوودية قديمة، رغم زمنه الراهن، عبر قصة حب بين شابين، يحاولان عيش حياتهما وتحقيق رغباتهما في موسيقى الجاز والتمثيل، في مواجهة تحديات صعبة.
وللسود حضورٌ آخر، عبر حصول فيولا ديفيس على جائزة أفضل ممثلة ثانية، عن دورها في "أسوار" لدنزل واشنطن: لاعب بايزبول أسود، يُصبح زبّالاً في بيتسبورغ، في خمسينيات القرن الـ20. وهذا لن يكون مجرد سرد لحكاية فردية عابرة، لأن الفيلم متوغل في شؤون حقبة وصراعات وانقلابات، تؤسِّس لمرحلة مختلفة لها، وإنْ بعد حين.
"لا لا لاند"، الذي أثار جدلاً كبيراً بخصوص موضوعه وترشيحاته الـ14، حصل على 6 جوائز فقط: أفضل إخراج لشازيل (وهو أصغر مخرج يحصل عليها)، وأفضل ممثلة لإيما ستون، وأفضل ديكور لساندي رينولدز ـ واسكو وديفيد واسكو، وأفضل تصوير للينوس ساندغرين، وأفضل أغنية أصلية لـ"مدينة النجوم" لبنجي باسيك وجاستن بول وجاستن هورفيتز، وأفضل موسيقى لجاستن هورفيتز. مع هذا، هناك سؤال مطروح: هل يستحق شازيل وفيلمه هذا الكمّ من الترشيحات الهائلة، وهذه التماثيل المخصّصة غالبيتها للتقنيات؟
فيلمٌ آخر يدخل في إطار المناكفة السياسية لـ"زمن دونالد ترامب"، وإنْ بشكلٍ موارب: الوثائقي القصير "الخوذ البيضاء"، للثنائي أورلاندو فون آيسيدل وجوانا ناتاسيغارا. فرغم الأهمية التوثيقية لوقائع العمل الميداني، المحاط بضغوط ومصاعب وتحديات جمّة، الذي يقوم به أصحاب الخوذ أولئك، المنتمون إلى "الدفاع المدني السوري" في ظلّ الحرب السورية، إلّا أن منحه الجائزة لن يكون منزّهاً، كلّياً، عن موقف سياسي لهوليوود، إزاء عنصرية الرئيس الأميركي نفسه.
في هذا الإطار، يُمكن اعتبار فوز "هاكساو ريدج"، لمل غيبسون، بجائزتي أفضل مونتاج لجون غيلبرت، وأفضل ميكساج صوت لكفن أوكونيل وروبرت ماكنزي وآندي رايت وبيتر غرايس، بمثابة ردة فعل ضد الوضع السياسي العام في الولايات المتحد الأميركية، رغم أن فوزه لا يتعدّى فئتين تقنيتين للغاية. فالموضوع أساسي ومهم، إذْ يطرح سؤالاً أخلاقياً حول معنى التورّط بالحرب، وحول الموقف المناهض لها، والانخراط فيها، في الوقت نفسه، من جانب إنساني بحت: القصة الحقيقية لدزموند دوس، الذي يرفض المشاركة في "حرب الباسيفيك"، في الحرب العالمية الثانية، بسبب مبادئ أخلاقية وإنسانية، فيتطوّع في الخدمات الطبية لمعالجة الجرحى.
لا يُمكن الاكتفاء بالحجج السياسية، في منح بعض الأفلام "المُسيَّسة"، بشكلٍ أو بآخر، جوائز "أوسكار". والتسييس، إذْ يطاول الجوانب الحياتية كلّها في أميركا والعالم، يجب ألّا يختزل القيم السينمائية لأفلامٍ تمتلك شرطها الإبداعي. لكن اللحظة الأميركية الراهنة صعبة، والتحديات كثيرة، والصراع الأميركي الداخلي حادٌّ، ما يضع الأكاديمية والجوائز في موقف لن يكون حرجاً كلّياً، لأن هوليوود اعتادت خوض معارك سياسية وأخلاقية واجتماعية مختلفة.
اقــرأ أيضاً
وهذا يتضح في فوز كايسي آفلك بجائزة أفضل ممثل، عن دوره في "مانشستر باي ذو سي" لكينيث لونرغان، مثلاً، الفائز بجائزة أفضل سيناريو أصلي، نالها لونرغان نفسه. فالفيلم يُفكِّك حالة روحية ونفسية لرجل يعود إلى بلدته، المتخلي عنها منذ سنين كثيرة، إثر وفاة شقيقه، بهدف الاهتمام بابن الراحل. لكن العودة تفتح أبواباً مغلقة على ذاكرة وحكايات مخبّأة وأسئلة معلّقة، ترتبط بالإنساني والفكري والذاتي، في لحظة سياسية يُراد لها تدمير مُثلٍ وقيمٍ متنوّعة.
في مقابل هذا كلّه، تبدو الفئات التقنية أقرب إلى حقائق السينما من كل موقف سياسي. والمنافسة، هنا، تُصبح أكثر منطقية، لأنها تساهم في كشف البراعة الإبداعية التقنية المطلوبة في صناعة السينما. في هذا الإطار، فاز "الفرقة الانتحارية" لديفيد آير، بـ"أوسكار" أفضل ماكياج وكوافير (أليساندرو برتولازي وجيورجيو غريغوريني وكريستوفر نلسن)، وArrival لدوني فيلنوف، بـ"أوسكار" أفضل مونتاج (سيلفان بيلمار)، وJungle Book لجون فافرو، بـ"أوسكار" أفضل مؤثرات بصرية (روبرت ليغاتو وآدم فالديز وأندرو أر. جونز ودان ليمون).
حفلة جديدة، وسجالات كثيرة، ورابحون يفرحون بالجوائز. لكن صناعة السينما الهوليوودية مستمرة في إنتاج أفلام كثيرة، سيُحدث بعضها سجالات إضافية، كعادتها التاريخية.
اقــرأ أيضاً
وإذْ حاولت الأكاديمية التوفيق بين الجوانب المختلفة للنتائج النهائية، إلّا أن الغلبة للسياسة واضحة المعالم. وهذا لن يبقى أسير جائزة دون غيرها، ولن يكون حكراً على منح "البائع"، للإيرانيّ أصغر فرهادي، "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي، بعد القرار العنصريّ الذي اتّخذه الرئيس الأميركي بحقّ شعوبٍ "ممنوعة" من دخول الأراضي الأميركية، بسبب انتماء ديني أو إثني، بينها إيران. خصوصاً أن هذا الفيلم لا يُعتَبر مؤهّلاً كلّياً للفوز، في ظلّ منافسة جدّية مع فيلمين اثنين على الأقلّ، في الفئة نفسها: الألماني "توني إردمان" لمارِن آدي، والأسترالي "تانا" للثنائي مارتن باتلر وبانتلاي دين.
ذلك أن التوفيق المذكور ظاهرٌ في نتائج أخرى، بمنح أفلام معنية بالسود جوائز، وبتكريم فيلم يستعيد عصراً ذهبياً للسينما الغنائية بعدد من الجوائز، أقلّ من نصف الترشيحات. وهذا متمثلٌ بمنح "موونلايت" لباري جانكنز 3 تماثيل ذهبية، في فئات أفضل فيلم، لكلّ من دايد غاردنر وجيريمي كلاينر وآديل رومنسكي، وأفضل ممثل في دور ثان لماهرشالا علي، وأفضل سيناريو مقتبس لجانكنز نفسه، المتعاون على اقتباسه مع كاتب المسرحية الأصلية، "على ضوء القمر، يظهر السود باللون الأزرق"، تارل آلفن ماك كراناي.
والفيلم يتابع 3 مراحل من سيرة شاب أفرو أميركي في ميامي، يسعى جاهداً إلى حماية حريته الشخصية في ميوله المثلية، في مجتمع رافض. وهذا على نقيض الفيلم الموسيقي الغنائي "لا لا لاند" لداميان شازيل، الذي يعود إلى حقبة موسيقية هوليوودية قديمة، رغم زمنه الراهن، عبر قصة حب بين شابين، يحاولان عيش حياتهما وتحقيق رغباتهما في موسيقى الجاز والتمثيل، في مواجهة تحديات صعبة.
وللسود حضورٌ آخر، عبر حصول فيولا ديفيس على جائزة أفضل ممثلة ثانية، عن دورها في "أسوار" لدنزل واشنطن: لاعب بايزبول أسود، يُصبح زبّالاً في بيتسبورغ، في خمسينيات القرن الـ20. وهذا لن يكون مجرد سرد لحكاية فردية عابرة، لأن الفيلم متوغل في شؤون حقبة وصراعات وانقلابات، تؤسِّس لمرحلة مختلفة لها، وإنْ بعد حين.
"لا لا لاند"، الذي أثار جدلاً كبيراً بخصوص موضوعه وترشيحاته الـ14، حصل على 6 جوائز فقط: أفضل إخراج لشازيل (وهو أصغر مخرج يحصل عليها)، وأفضل ممثلة لإيما ستون، وأفضل ديكور لساندي رينولدز ـ واسكو وديفيد واسكو، وأفضل تصوير للينوس ساندغرين، وأفضل أغنية أصلية لـ"مدينة النجوم" لبنجي باسيك وجاستن بول وجاستن هورفيتز، وأفضل موسيقى لجاستن هورفيتز. مع هذا، هناك سؤال مطروح: هل يستحق شازيل وفيلمه هذا الكمّ من الترشيحات الهائلة، وهذه التماثيل المخصّصة غالبيتها للتقنيات؟
فيلمٌ آخر يدخل في إطار المناكفة السياسية لـ"زمن دونالد ترامب"، وإنْ بشكلٍ موارب: الوثائقي القصير "الخوذ البيضاء"، للثنائي أورلاندو فون آيسيدل وجوانا ناتاسيغارا. فرغم الأهمية التوثيقية لوقائع العمل الميداني، المحاط بضغوط ومصاعب وتحديات جمّة، الذي يقوم به أصحاب الخوذ أولئك، المنتمون إلى "الدفاع المدني السوري" في ظلّ الحرب السورية، إلّا أن منحه الجائزة لن يكون منزّهاً، كلّياً، عن موقف سياسي لهوليوود، إزاء عنصرية الرئيس الأميركي نفسه.
في هذا الإطار، يُمكن اعتبار فوز "هاكساو ريدج"، لمل غيبسون، بجائزتي أفضل مونتاج لجون غيلبرت، وأفضل ميكساج صوت لكفن أوكونيل وروبرت ماكنزي وآندي رايت وبيتر غرايس، بمثابة ردة فعل ضد الوضع السياسي العام في الولايات المتحد الأميركية، رغم أن فوزه لا يتعدّى فئتين تقنيتين للغاية. فالموضوع أساسي ومهم، إذْ يطرح سؤالاً أخلاقياً حول معنى التورّط بالحرب، وحول الموقف المناهض لها، والانخراط فيها، في الوقت نفسه، من جانب إنساني بحت: القصة الحقيقية لدزموند دوس، الذي يرفض المشاركة في "حرب الباسيفيك"، في الحرب العالمية الثانية، بسبب مبادئ أخلاقية وإنسانية، فيتطوّع في الخدمات الطبية لمعالجة الجرحى.
لا يُمكن الاكتفاء بالحجج السياسية، في منح بعض الأفلام "المُسيَّسة"، بشكلٍ أو بآخر، جوائز "أوسكار". والتسييس، إذْ يطاول الجوانب الحياتية كلّها في أميركا والعالم، يجب ألّا يختزل القيم السينمائية لأفلامٍ تمتلك شرطها الإبداعي. لكن اللحظة الأميركية الراهنة صعبة، والتحديات كثيرة، والصراع الأميركي الداخلي حادٌّ، ما يضع الأكاديمية والجوائز في موقف لن يكون حرجاً كلّياً، لأن هوليوود اعتادت خوض معارك سياسية وأخلاقية واجتماعية مختلفة.
وهذا يتضح في فوز كايسي آفلك بجائزة أفضل ممثل، عن دوره في "مانشستر باي ذو سي" لكينيث لونرغان، مثلاً، الفائز بجائزة أفضل سيناريو أصلي، نالها لونرغان نفسه. فالفيلم يُفكِّك حالة روحية ونفسية لرجل يعود إلى بلدته، المتخلي عنها منذ سنين كثيرة، إثر وفاة شقيقه، بهدف الاهتمام بابن الراحل. لكن العودة تفتح أبواباً مغلقة على ذاكرة وحكايات مخبّأة وأسئلة معلّقة، ترتبط بالإنساني والفكري والذاتي، في لحظة سياسية يُراد لها تدمير مُثلٍ وقيمٍ متنوّعة.
في مقابل هذا كلّه، تبدو الفئات التقنية أقرب إلى حقائق السينما من كل موقف سياسي. والمنافسة، هنا، تُصبح أكثر منطقية، لأنها تساهم في كشف البراعة الإبداعية التقنية المطلوبة في صناعة السينما. في هذا الإطار، فاز "الفرقة الانتحارية" لديفيد آير، بـ"أوسكار" أفضل ماكياج وكوافير (أليساندرو برتولازي وجيورجيو غريغوريني وكريستوفر نلسن)، وArrival لدوني فيلنوف، بـ"أوسكار" أفضل مونتاج (سيلفان بيلمار)، وJungle Book لجون فافرو، بـ"أوسكار" أفضل مؤثرات بصرية (روبرت ليغاتو وآدم فالديز وأندرو أر. جونز ودان ليمون).
حفلة جديدة، وسجالات كثيرة، ورابحون يفرحون بالجوائز. لكن صناعة السينما الهوليوودية مستمرة في إنتاج أفلام كثيرة، سيُحدث بعضها سجالات إضافية، كعادتها التاريخية.