ومنذ عام تقريباً، كانت تسيطر على دائرة السيسي فكرة تشكيل ثلاثة أو أربعة أحزاب كبرى، وتكوين ائتلافات بين الأحزاب لتخفيض عددها الذي يبلغ حالياً 150، مع دمج الصغيرة منها الموالية للنظام تحت مظلة واحدة تكون ظهيراً مباشراً للسيسي، فضلاً عن التخلّص من أحزاب المعارضة الحقيقية أو التي يمكن أن تمثّل خطراً على النظام، مقابل دعم عدد ضئيل من أحزاب المعارضة الصورية.
وعقد جهاز الاستخبارات اجتماعات مكثفة ومتتالية في الربيع والصيف الماضيين، بين قيادات أحزاب "مستقبل وطن"، و"حماة الوطن"، و"المؤتمر"، و"مصر بلدي"، و"الشعب الجمهوري"، لإتمام عملية الدمج. وتمّ التباحث حول عدد الأعضاء الحاليين بكل حزب، والرقم المستهدف إضافته، بالإضافة للمقار الحزبية المستغلة، والأماكن الأخرى المملوكة لقيادات الأحزاب في المحافظات الرئيسية، لبحث إمكانية توظيفها كمقار للحزب الكبير. إلا أنّ إجراءات الدمج تعثّرت بسبب التنافس المحموم بين قيادات تلك الكيانات على المناصب القيادية المنتظرة في الحزب الكبير. وهي منافسة تدور بالأساس بين القادة الذين كانوا يعملون في السابق ضباطاً بالجيش أو الشرطة، بينما يتوارى بصورة ملحوظة رجال الأعمال، وبصفة خاصة الذين كانوا ينتمون للحزب الوطني الحاكم في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك. والمرجح أن يبتعد هؤلاء عن صورة الصف الأول، مع إبقائهم مصدراً أساسياً للدعم المالي والحشد الجماهيري.
وكشفت الاجتماعات عن وجود خلافات على صعيد التحرك الجماهيري، وكذلك على مستوى الدعم المالي، فضلاً عن مشاكل أخرى بين قيادات بعض هذه الأحزاب. وتعتقد بعض الأحزاب أنها تملك رصيداً جماهيرياً أكبر من غيرها، وبالتالي لا ترحب بالاندماج معها، مفضلة إقامة حوار جديد مع أحزاب صغيرة أخرى، الأمر الذي تتداخل فيه اعتبارات شخصية وعائلية وقبلية عدة.
وهرباً من هذا المأزق مع اقتراب موعد استفتاء التعديلات الدستورية، وحاجة النظام لذراع سياسية بشكل عاجل، لجأ إلى منح دعمه الكامل لحزب "مستقبل وطن" وحده، وجنّب الأحزاب الأخرى مهمة المشاركة في قيادة مشهد الاستفتاء، نظراً لتبعية الحزب المطلقة للاستخبارات، وإدارته بواسطة الجهاز. علماً أنه مع الوقت، تمّ تفعيل التعاون بين قواعد الحزب والأجهزة الأمنية الأخرى، وعلى رأسها الرقابة الإدارية والأمن الوطني، ليكون "مستقبل وطن" أكثر التصاقاً بالشارع ومرونة في التعامل الميداني، وقد تجلى هذا الأمر في الفترة السابقة للاستفتاء وخلال إجرائه.
ومنذ فبراير/ شباط الماضي، بدأ إعداد كوادر الحزب يأخذ اتجاهاً مختلفاً عبر تنظيم ندوات وورش عمل تتضمّن محاضرات أولية في العديد من الموضوعات السياسية والاقتصادية والقانونية، وذلك لتكون لدى الحزب قائمة كبيرة من المنتمين في كل محافظة يمكن الدفع بمعظمهم في الانتخابات المقبلة بمختلف مستوياتها، وتكوين كوادر دائمة، على غرار كوادر "الحزب الوطني" المنحل.
لكن سوء إدارة المشهد الميداني في الاستفتاء، والضربة التي تلقاها "مستقبل وطن" واستهدفت بشكل مباشر رئيسه الحالي، أشرف رشاد الشريف، الذي يبدو واجهة صورية للأجهزة، دعت دائرة السيسي لفتح ملف تحديث عمل الحزب، و"تغيير صورته العامة" و"طرحه بشكل جديد" و"الاستفادة من دمج محتمل لأحزاب أخرى به"، بحسب مصادر سياسية مطلعة داخل الحزب وخارجه، قالت لـ"العربي الجديد" إنّ هذه المناقشات "تدور بجدية منذ انتهاء الاستفتاء، استعداداً للانتخابات البرلمانية والمحلية المقبلة".
وكشفت المصادر أنّ إدارة الاستخبارات العامة فتحت تحقيقاً موسعاً في أحداث الاستفتاء الأخير، بإشراف مباشر من رئيس الجهاز عباس كامل. ولا ينصب التحقيق بطبيعة الحال على مساءلة المتورطين في التجاوزات والرشى الانتخابية المفضوحة، لكن على استجواب المخططين الذين تسببوا في ظهور هذه التجاوزات للعلن، والقيادات الوسيطة التي كانت مسؤولة عن اختيار رجال الأعمال الذين يتعاون معهم الحزب والسيطرة على تصرفاتهم.
كما تشمل التحقيقات الدوائر والأشخاص الذين حاولوا توجيه ضربة للحزب والنظام، سواء بنشر صور توزيع الرشى الانتخابية أو ترويج شائعة تقدم السيسي نفسه ببلاغ ضدّ الحزب لاستخدام اسمه في توزيع الرشى. وأكدت المصادر أنّ المعلومات تشير إلى أنّ المسؤولين عن توجيه هذه الضربة على صلة بمجموعة من ضباط الأمن الوطني الذين تم إبعادهم في الفترة الأخيرة، بعد تولي وزير الداخلية الجديد محمود توفيق، هذا المنصب في أغسطس/ آب الماضي، وذلك لتصفية الحسابات مع منافسيهم من داخل الجهاز نفسه، الذين وضعوا خطة التحرّك الميدانية للحزب.
وأوضحت المصادر أنه في إطار العملية الممتدة لتوحيد الأجهزة تحت قيادة عباس كامل شخصياً، والقضاء على جيوب المعارضين أو المستبعدين غير مأموني الجانب وبقايا مؤيدي نظام مبارك داخل جميع الأجهزة، فإنّ دائرة السيسي تبحث نقل الإدارة الميدانية لـ"مستقبل وطن" إلى الرقابة الإدارية، بدلاً من الأمن الوطني، وأن تجري الاستعانة بعدد محدود من ضباط الجهاز الأخير، الأكثر خبرة في الشؤون السياسية والحراك الميداني، مع إبقاء السيطرة على الحزب في يد الاستخبارات وحدها.
وتشمل الأفكار محلّ البحث أيضاً طريقة إعداد القوائم المبدئية لمرشحي "مستقبل وطن" لمجلس الشيوخ المقبل، وكذلك مجلس النواب. وهنا، من المنتظر أن تظهر مشاكل عدة بسبب كثرة الوعود التي تلقاها مئات من رجال الأعمال الذين دعموا الحزب في حراك الاستفتاء، مالياً ولوجستياً.
ومن الملفات التي ترى دائرة السيسي أنّ إدارة الحزب الحالية فشلت فيها أيضاً هي "ملء الفراغ الاجتماعي الذي خلفه البطش بالجمعيات الأهلية ذات الاتجاه الإسلامي بصفة عامة والتابعة أو المتعاونة مع جماعة الإخوان المسلمين بصفة خاصة، والتي كانت الأقرب للمواطنين في المناطق المهمشة والريفية". وقد اتضح ذلك الفشل في الاستفتاء الأخير، إذ اضطر النظام للاستعانة مباشرة بالعُمد ومشايخ القرى التابعين للشرطة ومأموري الأقسام والمباحث، لحشد المواطنين في القرى، بعدما تبين عدم وجود أي رصيد جماهيري للحزب، وعدم تمكنه من التنسيق مع شخصيات قبلية وقروية ذات ثقل.
وبينما تهدد هذه المناقشات الإدارة الصورية الحالية للحزب بالرحيل وانتهاء الصلاحية، تعمل الاستخبارات على إعداد كوادر حركية جديدة للحزب في المحافظات المختلفة، اعتماداً على دورات تأهيلية مستمرة يحاضر فيها خريجو البرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة، الذي أطلقه السيسي عام 2015، والذين تلقوا تدريبهم في أكاديمية ناصر العسكرية وكلية إعداد القادة التابعة للجيش، ثم في الأكاديمية الوطنية لتأهيل الشباب للقيادة التي بات السيسي يعتمد عليها كمفرخة للقيادات الشابة والملتحقين الجدد بالوظائف المدنية والقضائية والرقابية.
وتمثل السيدات أكثر من 40 في المائة من إجمالي من يتلقون التدريبات حالياً، بهدف السيطرة التامة على الزيادة الكبيرة التي ستطرأ على عدد المرشحات للانتخابات المقبلة بمختلف أنواعها، خصوصاً بعد التعديل الدستوري الذي خصّص ربع مقاعد مجلس النواب للمرأة.