13 فبراير 2022
استبداد عربي دائم
لا تبدو حالة السياسة، مفهوماً وممارسة، أفضل حالاً اليوم في العالم العربي مما كانت عليه أوائل القرن الماضي، وكأن شيئاً لم يتغير. فحين تقرأ ما كتبه عبد الرحمن الكواكبي في سفره "طبائع الاستبداد" تشعر كأنه كُتب بالأمس، وليس قبل قرنٍ ونيف. يعرّف الكواكبي السياسة بأنها "إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة"، وهي، بالنسبة له، المقابل النافي للاستبداد الذي يعرّفه، ضمن تعريفاتٍ أخرى، أنه "التصرّف بالشؤون المشتركة بمقتضى الهوى". أما مصدر الاستبداد بالنسبة للكواكبي فهو "غفلة الأمة وتقاعسها عن محاسبة الحاكم، مستعينة بجهالة الأمة والجنود المنظمة"، فالمستبد، بحسب الكواكبي، يود أن تكون رعيته "كالغنم دُرّاً وطاعة، وكالكلاب تذللاً وتملقاً".
كان الكواكبي يصف استبداد الدولة العثمانية، خصوصاً في المشرق العربي، ويراه سبب تخلف المسلمين وانحطاطهم. ولربما لم يكن يدافع عن الديمقراطية بمعناها الدارج حالياً، والتي سمّاها الشورى الدستورية، وإنما يرغب في وجود حكومةٍ منتخبةٍ مقيّدة من الشعب، وتعمل لخدمة مصالحه وليس مصالحها. وقد وضع الكواكبي "وصفة" رآها الوسيلة الوحيدة للتخلص من الاستبداد، من خلال تعريفه الأمة والحكومة والحقوق والمساواة...إلخ.
ليس الهدف هنا استعراض "طبائع الاستبداد"، أو تبيان أهميته، بقدر ما هو المقارنة بين أوضاعنا قبل مائة عام وما نعيشه الآن. والمؤكّد أن أحداً من سياسييّ العرب لم يقرأ الكواكبي، وإذا قرأه فإنه لم يعمل بما ورد في هذا الكتاب المهم. لا ينطبق الأمر على الكواكبي فحسب، فكثير من كتابات المفكرين العرب الأوائل، كرفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي ومحمد عبده وأحمد لطفي السيد وطه حسين وغيرهم لم تجد آذاناً صاغية لدى النخب التي حكمت العالم العربي في مرحلة ما بعد الاستقلال. بل على العكس، نجحت الأنظمة العسكرتارية في تشكيل نخبها المثقفة التي برّرت سياساتها واستبدادها، وساهمت في تكريس حالة الارتكاس السياسي إلى الدرجة التي يترحم فيها بعضهم، ويا للمفارقة، على مرحلة الاستعمار. لا يقتصر الأمر فقط على بعض المثقفين (أو مدّعي الثقافة)، وإنما أيضاً بعض الشباب. وقد فُزعت، مرة، حين كنت أدرّس لطلابي، من أن أحد الطلاب العرب جاءني مدافعاً عن الاستعمار، ومآثره التي تركها للعالم العربي، بل ويرى، بدون شعور بالخطأ، أن "عودة الاستعمار" قد تكون السبيل الوحيد لنهوض العرب.
هكذا، تدفع حالة الاستبداد السياسي وانسداد الأفق أمام الشباب العربي إلى البحث عن خلاص، كلٌ على طريقته وحسب هواه، حتى إنْ كان ذلك باستجلاب الاستعمار إلى بلادنا مرة أخرى. نقول ذلك، من دون أن نغفل دور نخب عربية أخرى، لا تزال تدافع عن حقوق الشعوب العربية في الحرية والكرامة والديمقراطية. وتدفع ثمن ذلك من حريتها وحياتها. وهي تفعل ذلك، انطلاقاً ليس فقط من رسالتها ومبادئها والتزامها الأخلاقي، وإنما أيضاً باعتبار أن ذلك هو الطريق الوحيد للخلاص من الوضع البائس الذي تعيشه مجتمعاتنا.
ويُسأل عن استمرار هذا الوضع، فضلاً عن النخب الحاكمة، تلك الفئة من المثقفين الذين تماهوا مع السلطة، ودافعوا، ولا يزالون، عن جرائمها واستبدادها. وهي فئةٌ موجودةٌ منذ الاستعمار وحتى يومنا هذا، ولكن بوجوه وأسماء جديدة. وهي لا تخجل من الجهر بسوءاتها في دعم السلطوية والتنظير لها وتبرير أفعالها، متقمّصة شخصية "الملهم". فتارة يتحدّث أحدهم عن "المستبد المستنير"، وتارة أخرى يرى أن المشكلة "فينا" نحن الشعوب التي لا يُسأل عنها الحكام.
لا عجب، والحال كهذه، أن نستمر في هذه الحلقة المفرغة من الاستبداد الدائم الذي تغذيه نخبٌ وفئاتٌ ترى في الحرية والعدالة تهديداً كبيراً، ليس فقط لمصالحها، وهي كثيرة، وإنما لوجودها ذاته.
كان الكواكبي يصف استبداد الدولة العثمانية، خصوصاً في المشرق العربي، ويراه سبب تخلف المسلمين وانحطاطهم. ولربما لم يكن يدافع عن الديمقراطية بمعناها الدارج حالياً، والتي سمّاها الشورى الدستورية، وإنما يرغب في وجود حكومةٍ منتخبةٍ مقيّدة من الشعب، وتعمل لخدمة مصالحه وليس مصالحها. وقد وضع الكواكبي "وصفة" رآها الوسيلة الوحيدة للتخلص من الاستبداد، من خلال تعريفه الأمة والحكومة والحقوق والمساواة...إلخ.
ليس الهدف هنا استعراض "طبائع الاستبداد"، أو تبيان أهميته، بقدر ما هو المقارنة بين أوضاعنا قبل مائة عام وما نعيشه الآن. والمؤكّد أن أحداً من سياسييّ العرب لم يقرأ الكواكبي، وإذا قرأه فإنه لم يعمل بما ورد في هذا الكتاب المهم. لا ينطبق الأمر على الكواكبي فحسب، فكثير من كتابات المفكرين العرب الأوائل، كرفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي ومحمد عبده وأحمد لطفي السيد وطه حسين وغيرهم لم تجد آذاناً صاغية لدى النخب التي حكمت العالم العربي في مرحلة ما بعد الاستقلال. بل على العكس، نجحت الأنظمة العسكرتارية في تشكيل نخبها المثقفة التي برّرت سياساتها واستبدادها، وساهمت في تكريس حالة الارتكاس السياسي إلى الدرجة التي يترحم فيها بعضهم، ويا للمفارقة، على مرحلة الاستعمار. لا يقتصر الأمر فقط على بعض المثقفين (أو مدّعي الثقافة)، وإنما أيضاً بعض الشباب. وقد فُزعت، مرة، حين كنت أدرّس لطلابي، من أن أحد الطلاب العرب جاءني مدافعاً عن الاستعمار، ومآثره التي تركها للعالم العربي، بل ويرى، بدون شعور بالخطأ، أن "عودة الاستعمار" قد تكون السبيل الوحيد لنهوض العرب.
هكذا، تدفع حالة الاستبداد السياسي وانسداد الأفق أمام الشباب العربي إلى البحث عن خلاص، كلٌ على طريقته وحسب هواه، حتى إنْ كان ذلك باستجلاب الاستعمار إلى بلادنا مرة أخرى. نقول ذلك، من دون أن نغفل دور نخب عربية أخرى، لا تزال تدافع عن حقوق الشعوب العربية في الحرية والكرامة والديمقراطية. وتدفع ثمن ذلك من حريتها وحياتها. وهي تفعل ذلك، انطلاقاً ليس فقط من رسالتها ومبادئها والتزامها الأخلاقي، وإنما أيضاً باعتبار أن ذلك هو الطريق الوحيد للخلاص من الوضع البائس الذي تعيشه مجتمعاتنا.
ويُسأل عن استمرار هذا الوضع، فضلاً عن النخب الحاكمة، تلك الفئة من المثقفين الذين تماهوا مع السلطة، ودافعوا، ولا يزالون، عن جرائمها واستبدادها. وهي فئةٌ موجودةٌ منذ الاستعمار وحتى يومنا هذا، ولكن بوجوه وأسماء جديدة. وهي لا تخجل من الجهر بسوءاتها في دعم السلطوية والتنظير لها وتبرير أفعالها، متقمّصة شخصية "الملهم". فتارة يتحدّث أحدهم عن "المستبد المستنير"، وتارة أخرى يرى أن المشكلة "فينا" نحن الشعوب التي لا يُسأل عنها الحكام.
لا عجب، والحال كهذه، أن نستمر في هذه الحلقة المفرغة من الاستبداد الدائم الذي تغذيه نخبٌ وفئاتٌ ترى في الحرية والعدالة تهديداً كبيراً، ليس فقط لمصالحها، وهي كثيرة، وإنما لوجودها ذاته.