يُستعاد هولاكو، هذه الأيام، من قبل بعض المثقّفين العرب، أو يُستدعى في الحقيقة للمشاركة في الاقتتال السياسي الداخلي. وتولَد في أحاديث المقاهي آراء تؤكّد أنه لم يحرق مكتبات بغداد كما يُشاع عنه في التاريخ.
وثمّة من يتسلّل من ثغرة مجازية تقول إن مياه نهر دجلة صارت زرقاء أو حمراء من حبر الكتب التي رُميت فيه، كي يثبتوا أن الخبر كذبة تاريخية، وأن الرواية عن تبدُّل لون الماء ليست سوى أسطورة محلية تم تسويقها من قبل بعض المؤرّخين العرب، وهي تفتقر إلى أي مصداقية واقعية يستحيل حدوثها في مياه الأنهار.
واللافت هو أن بعضاً ممن يمنحونه البراءة، يبيحون له على هامش الحديث أن يكون قد دمّر كتب الفِرق التي يعادونها، سواء كان العداء مذهبياً، أو طائفياً، أو فكرياً، وأنه من الممكن أن يُحمد ذلك الغازي وأولئك الجنود لأنهم خلّصونا من تلك التركة التي لا تحوي غير الخزعبلات والترهات والمشاغل الصغيرة. ويمكن في مثل هذه الحالات أن تعمّم الشخصية التاريخية، وتمنح أشباهها صكوك الغفران وشهادات الامتياز والتفوق.
وربما لا يكون الغازي الشهير قد أمر بحرق أو بتدمير المكتبات ورمي الكتب في نهر دجلة، غير أننا لا نملك ما يدل على أنه قد منع جنوده من أن يتلفوها. فلم يحرص الغزاة في التاريخ كلّه على الكتب. ومن المعروف أن هولاكو سمح لجنوده بأن يجتاحوا بغداد وينهبوا ما فيها، بعد انهيار دفاعات المدينة. لن يحمل الجندي المقاتل، المسموح له بأخذ ما يريد، الكتب على كتفيه أو بين ذراعيه، وهي بضاعة لا تلزم الجنود أثناء مرورهم في المدن المحتلة، وقد تكون مصدراً للهو، أو للانتقام من البيوت التي لا تحتوي على ما خفّ وزنه وغلا ثمنه.
أكثر الدوافع قوة هي رغبة العدو في محو الهوية التي تمنح عدوه مسوّغات وجوده، وهو يعرف أن الهويات تتمركز في الخلاصات الفكرية من فلسفة وتاريخ وآداب مختلفة ستكون المعبر عن حالة خاصة يتميّز بها هذا الشعب أو ذاك، أو هذه الثقافة أو تلك. وقد عبرت النازية عن هذا الأمر بصراحة حين وضعت بند " تدمير الموارد الفكرية" ضمن المهام التي يجب على الجيش القيام بها في سياق الحرب ضد أي عدو.
وتسجّل ريبيكا نورث في كتابها "إبادة الكتب" أن المكتبات في بلجيكا وإيطاليا كانت ضحية تنفيذ هذا البند بالذات، حيث أحرقت آلاف الكتب علناً في الساحات العامة، ولدينا أكثر من تعبير روائي عن العداوة النازية للكتاب كما في رواية "مانديل بائع الكتب" لـ ستيفان زفايغ، أو "سارقة الكتب" لـ ماركوس زوساك.
اعتادت الثقافات أن تستدعي الشخصيات التاريخية في الشعر أو الرواية أو المسرح للتعبير عن تجارب روحية أو فكرية أو سياسية معاصرة، ومنها ثقافتنا العربية، أما استدعاء هولاكو فلا يصلح إلا للتعبير عن بؤس مثل هكذا ثقافة وخوائها، إذ بدلاً من أن يكون المثقف ضمير الأمة، تراه يستعير الغزاة كي يدافع عن الطغاة.