يتيح مؤتمر هرتسليا السنوي لـ"المناعة القومية"، منذ نسخته الأولى قبل 15 عاما، نظرة مغايرة لنمط التفكير الإسرائيلي وترسيم خريطة التهديدات الإسرائيلية ونشرها على الملأ. كما أنه يوفر مساحة للترويج لرسائل إسرائيلية إلى محيطها العربي، ليس من باب تحديد هوية جهات العداء أو مكامن الخطر للأمن الإسرائيلي من وجهة نظر تل أبيب فحسب، إنما أيضا التوعّد بالرد المتوفر لمواجهة هذه الأخطار. ويتعلق هذا كله برفد المواقف السياسية للحكومة الإسرائيلية بتحليلات و"دراسات" ذات صفة "علمية" يتم توظيفها للتدليل على "صحة الموقف الرسمي". كل ذلك علماً أن مؤتمر هرتسليا كان بمثابة تحدٍّ يميني للهيمنة الأكاديمية التي تمتع بها تيار اليسار التقليدي في إسرائيل.
وإذا كان هرتسليا، على غرار مؤتمر معهد أبحاث الأمن القومي، ركزا في العامين الماضيين على الترسانة الصاروخية لحزب الله، وتنامي حركات الجهاد العالمية وصولا إلى "داعش"، فإن مؤتمر هذا العام جاء ليرفد الدعاية الإسرائيلية لحكومة بنيامين نتنياهو في الترويج للمشروع الإيراني، و"سعي إيران للهيمنة" مع تهديد "أنظمة الاعتدال السني" من جهة، والتقليل قدر الإمكان من محورية القضية الفلسطينية ومكانتها حتى على أجندة العالم والحكومات العربية، من جهة ثانية.
من هنا، لم يكن مفاجئا أن يركز وزير الأمن الإسرائيلي، موشيه يعالون، أمس، والجنرال عاموس جلعاد، أول من أمس، أمام المؤتمر، على الملف الإيراني والدخول إليه من مقولة سقوط الأنظمة أو الدول القومية القُطرية وتفكك كل من العرق وسورية وحتى لبنان، فيما تواجه الأنظمة الملكية باستقرارها المفاجئ، المشروع الإيراني. وبحسب تعابير سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، رون بروسوار، في كلمته أمام المؤتمر، هناك "نقاط التقاء في المصالح (العربية) مع الجانب الإسرائيلي، يتعين استغلالها يوميا والاستفادة من كل لحظة منها لصالح إسرائيل".
لكن مع إقرار الجهات المختلفة في إسرائيل، بدءا من يعالون ومرورا بجلعاد ورئيس الأركان غادي أيزنكوت، بأن خطر الجيوش التقليدية قد زال عن إسرائيل بفعل ما يحدث في سورية والعراق، من جهة، وكثمرة لمعاهدات السلام مع مصر والأردن من جهة ثانية، فإن ذلك يوجب أيضا تحديد عقيدة أمن جديدة لمواجهة التنظيمات والمنظمات المناهضة لإسرائيل، بدءا من حزب الله وحركة "حماس"، لجهة العمل في محاربتها والعمل على تعزيز وتكريس الردع الإسرائيلي كحل وأداة تلزم هذه المنظمات بدراسة كل خطوة قبل الإقدام على مواجهات عسكرية. وبحسب مصطلحات دولة الاحتلال، يجب مواصلة "كي وعيها" لتقتنع بأن الرد الإسرائيلي أو الضرر الذي سيلحق بها سيكون أكبر من الفائدة التي ستجنيها في حال المواجهة العسكرية، كما يقترح في ورقة العمل الخاصة الأستاذ في معهد الدراسات السياسية والاستراتيجية التابع لمركز هرتسليا متعددة المجالات، شاؤول شاي.
يرى شاي أن عقيدة الأمن الإسرائيلي مع زوال خطر الجيوش التقليدية يجب أن تتراوح بين "الردع" بمختلف تجلياته و"الحسم" في ميادين القتال في حال اندلاع المواجهة العسكرية، ليصل إلى أن نتائج عملية الحسم تكون ببناء مفهوم الردع عند الطرف الآخر، وهو ما يفسر عدم خروج حزب الله في لبنان بعد حرب 2006 إلى مغامرة جديدة ضد إسرائيل، أو ما يميز الآن سلطة "حماس" في غزة، وعدم سعيها إلى دورة جديدة من القتال مع إسرائيل، بحسب ادعائه. ويشير شاي إلى أنه يجوز لتنظيمات المقاومة الإسلامية، بما في ذلك حماس وحزب الله، التوصل إلى هدنة مع العدو، إلا أن هذه الهدنة تنتهي مع تعاظم قدرة "العدو"، وهو ما يضرب مفهوم الردع. إلا أنه يستدرك أنه كلما اقتربت هذه التنظيمات من حالة "الدولتية" وارتباطها بمصالح الناس اليومية، كما في حالة حماس في غزة وحزب الله في لبنان، فإن ذلك يحملها عبء التزامات تجاه السكان، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وبالتالي يرجح ذلك كفة عنصر الردع في حساباتها وقراراتها، وفق شاي.
اقرأ أيضاً: هرتسيليا: إيران و"داعش" أكبر المخاطر...والانقلاب في مصر معجزة لإسرائيل
وإذا كان هذا المنطق لا ينطبق في حالة التنظيمات الجهادية الأخرى، كـ"الجهاد الإسلامي" و"جبهة النصرة"، فإن هذه التنظيمات تأخذ في حساباتها الردع الإسرائيلي بسبب سعيها إلى الحفاظ على بقائها، وهو ما يفسر، بحسب تحليلات شاي نفسه، موقف جبهة النصرة مثلاً رغم سيطرتها على أجزاء كبيرة من هضبة الجولان المحتل، ومع ذلك لا تسارع إلى استفزاز إسرائيل، "حتى لا تعرض مجرد وجودها للخطر، وهو ما ينطبق أيضا على تنظيم أنصار بيت المقدس" في سيناء.
ويرصد شاي، في هذا السياق، حقيقة اعتماد إسرائيل استراتيجية الردع على حساب الحسم بين عامي 2000 و2015 باستثناء مرة واحدة لجأت فيها إلى استراتيجية الحسم ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، خلال عدوان "السور الواقي" عام 2002 "مع أن ذلك يتطلب ثمنا غير الذي تتطلبه استراتيجية الردع". وقد تخلت إسرائيل، بحسب الكاتب، في العقد الأخير، عن استراتيجية الحسم لصالح استراتيجية الردع كتحصيل حاصل من مواجهات ميدانية، وليس نتيجة لاستراتيجية شاملة. ولا يفوت الكاتب بطبيعة الحال القول إن أحد التحديات التي تواجهها إسرائيل ضد المقاومة، هو سعي الأخيرة إلى زيادة عدد القتلى المدنيين، لتوظيف ذلك في عمليات نزع الشرعية عن إسرائيل، وضرب ما يسميه "هويتها الديمقراطية". ويرى أن هذا يتطلب عملياً تبني استراتيجية جديدة دعا إليها الجنرال عامي أيلون، تحت مسمى "استراتيجية عدم الخضوع" والتي تقوم على "احتواء المواجهة، بناء الردع، وفي الوقت ذاته الامتناع عن الحسم باهظ الثمن".
في المقابل، يرى الكاتب أن هناك من يعتقدون، في ظل عدم القدرة على توقع رد التنظيمات والمنظمات المختلفة، وجوب اعتماد "استراتيجية الضاحية" التي استخدمتها إسرائيل في الحرب الثانية على لبنان، (في إشارة الى الضاحية الجنوبية لبيروت، عقر دار حزب الله)، في حال مواجهة مستقبلية مع الحزب. وكانت الصحف الإسرائيلية كشفت في هذا السياق، الأسبوع الماضي، عن وجود خطط إسرائيلية للقيام بعملية ترحيل واسعة النطاق للمدنيين من الجنوب اللبناني في مواجهة محتملة، ثم توجيه ضربات شديدة لقواعد حزب الله في الجنوب، مثلما فعلت في ضاحية بيروت، وذلك لتعميم الردع الإسرائيلي ضد حزب الله، وهو ما فعلته إسرائيل في قطاع غزة في عدوان "الرصاص المصبوب" و"عامود السحاب" وفي عدوانها الأخير.
اقرأ أيضاً: يعالون: إيران وحملات المقاطعة أكبر تحديات إسرائيل