13 فبراير 2022
استشراق النخب "المدينية" العربية
يمارس بعض المحسوبين على النخبة العربية المشتغلة بالفكر والبحث والثقافة نوعاً فريداً من الاستشراق، يمكن أن نسميه "الاستشراق المحلي"، وهو ذلك الذي تقوم به النخب "المدينية" العربية تجاه بقية المناطق في بلدانها، سواء في الريف أو الأطراف المهمّشة جغرافياً وتنموياً. ونقصد بالنخب المدينية تلك الفئة التي نشأت وترعرعت في المدن الحضرية الكبرى، كالقاهرة وبغداد ودمشق وعمّان وتونس والدار البيضاء..إلخ، ونالت حظاً وفيراً من التعليم ما بعد الجامعي، سواء في بلدانها أو خارجها، ثم عادت لتشتغل على الريف والمناطق والفئات المهمّشة في بلدانها من منظور استعلائي سطحي، لا يختلف كثيراً عن الاستشراق الغربي.
يغرق هؤلاء المستشرقون المحليّون في نسج (وتكرار) سردياتٍ عن سكان الريف و"الهوامش" peripheries والمناطق الأقل تنموية، مصدرها الرئيسي هو الأفلام والمسلسلات الكلاسيكية التي صدّرت لعقود صوراً نمطية ساذجة عن هذه المناطق، مثلما هي الحال في مناطق مثل الصعيد وسيناء وشمال الدلتا والبدو في مصر. وهي سردياتٌ لا تخلو من سطحيةٍ واختزالٍ لتعقيدات المجتمعات المحلية، سواء الريفية أو البدوية أو الهامشية، وتساعد في تكريس العلاقة الجافة بين المدينة أو الحضر والريف، باعتبارهما "عالمين" منفصلين كلياً، وذوَي طابع جوهراني لا يتغير. وبدلاً من أن تتحلى هذه النخب بالمسؤولية الأخلاقية والعلمية تجاه مجتمعاتهم، وذلك في مواجهة موجات الاستشراق الأجنبي التي لا تنقطع، فإنها تغرق في تكرار الكليشيهات والأحكام المعيارية نفسها، التي ترسّخ أطروحات المستشرقين الأجانب.
شاركتُ في مؤتمرات خلال العقد الماضي، وكان قدري أن أصطدم ببعض هؤلاء المستشرقين المحليّين الذين يقدّمون أنفسهم للعالم الخارجي باعتبارهم "خبراء" في المناطق المهمّشة العربية، من خلال أطروحات سيوسياسية وأنثروبولوجية واجتماعية، تخلط الذاتي بالموضوعي. وأذكر أنه، في أحد هذه المؤتمرات التي شاركت بها، في جامعةٍ بريطانية قبل سنوات، أن صادفت "باحثة" مصرية، تدّعي أنها أنثروبولوجية متخصّصة في دراسة الريف المصري، وحيث أنني نشأت وترعرعت في هذا الريف، وأعرف جيداً حياته وخباياه، وجدت ما تقوله هذه "الباحثة" مجرد خزعبلاتٍ لا ترقي إلى النقاش البحثي، بعضها مستقى من السينما المصرية، وبعض آخر من "الحكايات" المتداولة عن الريف وطباعه وعاداته وتقاليده، فكنت كمن أصابته فاجعة، فأصبح لا يعي ما يدرو حوله. وحين تحدثت معها بعد المؤتمر، وجدتها تمارس استعلاء طبقياً ونزقاً ثقافوياً، أكد شكوكي بأنها لم تعش يوماً واحداً في الريف المصري، على الرغم من ادّعائها معرفته ودراسته.
والأنكى أن يأتي هذا الاستشراق المحلي من أفرادٍ نشأوا وترعرعوا في القرى والنجوع والبوادي، وخبروا حياة الريف والبداوة بكل أسرارها وعاشوها بحلوها ومرّها، لكنهم هاجروا إلى المدينة، لأسباب تعليمية واجتماعية مختلفة، فتحولوا إلى "مستشرقين" متمدينين يمارسون الاستعلاء نفسه، والفوقية الطبقية التي تمارسها "نخبة" المدينة على الريف وأهله. وبدلاً من أن يقوم بتفكيك الصور النمطية الخاطئة عن الحياة الاجتماعية في الريف، تراه يكرّسها ويرسخها بشكلٍ يحظي بالمصداقية. تماماً، مثلما تفعل نخبٌ "فرانكفونية" في بعض بلدان المغرب العربي التي خرجت من الهوامش، وتعلمت في باريس، ثم عادت لتقوم بالدور نفسه الذي كان يقوم به مستشرقو فرنسا في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولكن بلغة محلية.
يجسّد الاستشراق المحلي العلاقة الإشكالية بين المركز والأطراف، ويساهم في ترسيخ حالة "الغيرية" otherness من خلال إيجاد "عوالم" متخيلة، مختلفة كلياً عن بعضها بعضا، ولا يمكن دراستها إلا بالتضاد. وإذا كان حقل الأنثروبولوجيا قد ساهم، بشكل كبير، في تفكيك هذه العلاقة من خلال الممارسة الميدانية والحياتية للباحث التي يتخلص فيها من أحكامه المسبقة، وأطرها النظرية، قبل أن يبدأ في الاشتغال على موضوعه البحثي، إلا أن الانقسام الهوياتي بين الريف والمدينة، أو الحضر والبدو، لا يزال عنصراً ضاغطاً على نماذج تفسيرية كثيرة للعلاقة بين المركز والأطراف. ومن المفارقات أن الأنثروبولوجيا، كحقل معرفي، نشأت، جزئياً، من أجل التخلص من الأحكام التعميمية في دراسة الظواهر الاجتماعية، عبر التركيز على حالات دراسية غنية في تفاصيلها وتعقيداتها، بحيث تجعلها حالاتٍ متفرّدة وخاصة، يصعب تعميمها.
لا يقتصر الاستشراق المحلي أو المديني على منطقتنا العربية، وإنما هو موجودٌ أيضا في مجتمعاتٍ أخرى، شبيهة في التطور التاريخي والاجتماعي، كما هي الحال في الهند وبعض الدول الأفريقية، وكذلك أميركا اللاتينية. وثمّة دراسات عديدة حول العلاقات بين المدن والقبائل والعائلات... إلخ، لا يخلو بعضها من استشراق محلي، واختزال لطبيعة العلاقة بين المركز والأطراف. صحيح أن ثمة دراسات معتبرة في هذا المجال، لكنها تظل الأقل حضوراً وتأثيراً.
ولكن، يظل الأمل معقوداً على الجيل الشاب من الباحثين العرب، من أجل تجنب الوقوع في فخ الاستشراق المحلي، خصوصا في مرحلة ما بعد "الربيع العربي"، الذي كشف حجم التنوع والتعقد الاجتماعي والسياسي والثقافي في مجتمعاتنا. ومن احتكاكي وعملي مع بعض هؤلاء، يمكن القول إن لدى كثيرين منهم الرغبة والقدرة على الانعتاق من هذا النمط الاستشراقي، وذلك من خلال تفكيك الأساطير والصور النمطية عن مجتمعاتنا، بشكلٍ سوف يساهم في إعادة تعريف حقل الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية بشكل جذري.
يغرق هؤلاء المستشرقون المحليّون في نسج (وتكرار) سردياتٍ عن سكان الريف و"الهوامش" peripheries والمناطق الأقل تنموية، مصدرها الرئيسي هو الأفلام والمسلسلات الكلاسيكية التي صدّرت لعقود صوراً نمطية ساذجة عن هذه المناطق، مثلما هي الحال في مناطق مثل الصعيد وسيناء وشمال الدلتا والبدو في مصر. وهي سردياتٌ لا تخلو من سطحيةٍ واختزالٍ لتعقيدات المجتمعات المحلية، سواء الريفية أو البدوية أو الهامشية، وتساعد في تكريس العلاقة الجافة بين المدينة أو الحضر والريف، باعتبارهما "عالمين" منفصلين كلياً، وذوَي طابع جوهراني لا يتغير. وبدلاً من أن تتحلى هذه النخب بالمسؤولية الأخلاقية والعلمية تجاه مجتمعاتهم، وذلك في مواجهة موجات الاستشراق الأجنبي التي لا تنقطع، فإنها تغرق في تكرار الكليشيهات والأحكام المعيارية نفسها، التي ترسّخ أطروحات المستشرقين الأجانب.
شاركتُ في مؤتمرات خلال العقد الماضي، وكان قدري أن أصطدم ببعض هؤلاء المستشرقين المحليّين الذين يقدّمون أنفسهم للعالم الخارجي باعتبارهم "خبراء" في المناطق المهمّشة العربية، من خلال أطروحات سيوسياسية وأنثروبولوجية واجتماعية، تخلط الذاتي بالموضوعي. وأذكر أنه، في أحد هذه المؤتمرات التي شاركت بها، في جامعةٍ بريطانية قبل سنوات، أن صادفت "باحثة" مصرية، تدّعي أنها أنثروبولوجية متخصّصة في دراسة الريف المصري، وحيث أنني نشأت وترعرعت في هذا الريف، وأعرف جيداً حياته وخباياه، وجدت ما تقوله هذه "الباحثة" مجرد خزعبلاتٍ لا ترقي إلى النقاش البحثي، بعضها مستقى من السينما المصرية، وبعض آخر من "الحكايات" المتداولة عن الريف وطباعه وعاداته وتقاليده، فكنت كمن أصابته فاجعة، فأصبح لا يعي ما يدرو حوله. وحين تحدثت معها بعد المؤتمر، وجدتها تمارس استعلاء طبقياً ونزقاً ثقافوياً، أكد شكوكي بأنها لم تعش يوماً واحداً في الريف المصري، على الرغم من ادّعائها معرفته ودراسته.
والأنكى أن يأتي هذا الاستشراق المحلي من أفرادٍ نشأوا وترعرعوا في القرى والنجوع والبوادي، وخبروا حياة الريف والبداوة بكل أسرارها وعاشوها بحلوها ومرّها، لكنهم هاجروا إلى المدينة، لأسباب تعليمية واجتماعية مختلفة، فتحولوا إلى "مستشرقين" متمدينين يمارسون الاستعلاء نفسه، والفوقية الطبقية التي تمارسها "نخبة" المدينة على الريف وأهله. وبدلاً من أن يقوم بتفكيك الصور النمطية الخاطئة عن الحياة الاجتماعية في الريف، تراه يكرّسها ويرسخها بشكلٍ يحظي بالمصداقية. تماماً، مثلما تفعل نخبٌ "فرانكفونية" في بعض بلدان المغرب العربي التي خرجت من الهوامش، وتعلمت في باريس، ثم عادت لتقوم بالدور نفسه الذي كان يقوم به مستشرقو فرنسا في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولكن بلغة محلية.
يجسّد الاستشراق المحلي العلاقة الإشكالية بين المركز والأطراف، ويساهم في ترسيخ حالة "الغيرية" otherness من خلال إيجاد "عوالم" متخيلة، مختلفة كلياً عن بعضها بعضا، ولا يمكن دراستها إلا بالتضاد. وإذا كان حقل الأنثروبولوجيا قد ساهم، بشكل كبير، في تفكيك هذه العلاقة من خلال الممارسة الميدانية والحياتية للباحث التي يتخلص فيها من أحكامه المسبقة، وأطرها النظرية، قبل أن يبدأ في الاشتغال على موضوعه البحثي، إلا أن الانقسام الهوياتي بين الريف والمدينة، أو الحضر والبدو، لا يزال عنصراً ضاغطاً على نماذج تفسيرية كثيرة للعلاقة بين المركز والأطراف. ومن المفارقات أن الأنثروبولوجيا، كحقل معرفي، نشأت، جزئياً، من أجل التخلص من الأحكام التعميمية في دراسة الظواهر الاجتماعية، عبر التركيز على حالات دراسية غنية في تفاصيلها وتعقيداتها، بحيث تجعلها حالاتٍ متفرّدة وخاصة، يصعب تعميمها.
لا يقتصر الاستشراق المحلي أو المديني على منطقتنا العربية، وإنما هو موجودٌ أيضا في مجتمعاتٍ أخرى، شبيهة في التطور التاريخي والاجتماعي، كما هي الحال في الهند وبعض الدول الأفريقية، وكذلك أميركا اللاتينية. وثمّة دراسات عديدة حول العلاقات بين المدن والقبائل والعائلات... إلخ، لا يخلو بعضها من استشراق محلي، واختزال لطبيعة العلاقة بين المركز والأطراف. صحيح أن ثمة دراسات معتبرة في هذا المجال، لكنها تظل الأقل حضوراً وتأثيراً.
ولكن، يظل الأمل معقوداً على الجيل الشاب من الباحثين العرب، من أجل تجنب الوقوع في فخ الاستشراق المحلي، خصوصا في مرحلة ما بعد "الربيع العربي"، الذي كشف حجم التنوع والتعقد الاجتماعي والسياسي والثقافي في مجتمعاتنا. ومن احتكاكي وعملي مع بعض هؤلاء، يمكن القول إن لدى كثيرين منهم الرغبة والقدرة على الانعتاق من هذا النمط الاستشراقي، وذلك من خلال تفكيك الأساطير والصور النمطية عن مجتمعاتنا، بشكلٍ سوف يساهم في إعادة تعريف حقل الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية بشكل جذري.