اعتقال كاريكاتوري وطلاق بائن
الأخطر في قضية توقيف فنان الكاريكاتير، الزميل عماد حجّاج، ليس التوقيف بحدّ ذاته، على أهميته وإدانتنا إياه، مبدأً وموقفًا، بل لما حمله هذا التوقيف من دلالات حيال التوجه الرسمي الأردني الذي يشير إلى أن ثمة طلاقًا بائنًا، بينونة كبرى، مع التوجه الشعبي حيال المتغيرات التي يشهدها الإقليم منذ سنوات، على الرغم من التصريحات الحكومية الوردية عن "التناغم" و"الانسجام" بين الموقفين، اللهم إلا إن كان القصد التناغم حول ضرورة خفض أسعار الفلافل.
صحيحٌ أن يمين الطلاق الأول حلف عند توقيع معاهدة وادي عربة مع الكيان الصهيوني، على الضد من التوجه الشعبي الرافض كل أشكال معاهدات الخنوع والخضوع للكيان الغاصب، غير أن ما أبقى العلاقة قائمةً على التعايش خارج نطاق غرف النوم فقط، هو السماح الرسمي للشعب برفض التطبيع، والتعبير عن تبرّمه بهذه الاتفاقية التي لم تبرح غرفة التوقيع، ولم تتعدّ أوراق المعاهدة وملحقاتها. والأهم أنها أخفقت في التغلغل داخل النسيج الفكري للشعب الأردني، إذ بقي العدوّ عدوًّا، وفلسطين مغتصبةً من بحرها إلى نهرها، حتى وإن استقبلهم المحتلّ بابتسامة سلام زائفة على المعابر الحدودية.
ومن الصواب، أيضًا، أن يمين الطلاق الثاني وقع، عندما أفصح التوجّه الرسمي عن موقفٍ مخزٍ حيال انقلاب عبد الفتاح السيسي وعسكره، ضد رئيس مصري منتخب للمرة الأولى على أرضٍ لم تتذوق غير حكم الفراعنة، قديمهم وحديثهم، وهو الموقف الذي تناقض تمامًا مع الموقف الشعبي المستنكر هذا الانقلاب الدمويّ، ليس بوصفه انقلابًا عسكريًّا اعتادته الشعوب العربية منذ فجر استقلالاتها، بل لأن من يؤيّده إنما يقف موقفًا مناقضًا للربيع العربي في مجمله، سيما وأن الموقف الرسمي الأردني أرسل إشاراتٍ موجبة مطلع انطلاق موجات الثورات الشعبية العربية، كانت تشي ببزوغ مرحلةٍ مشرقةٍ على أصعدة الإصلاح وتعميق النهج الديمقراطي الأردني الذي لم يغادر السطوح والرتوش وضرورات الديكور فقط حتى تاريخه، فجاء الترحيب الرسمي بانقلاب السيسي صادمًا، ومؤذنًا ببداية نكوصٍ طويل عن "أسطوانة" الإصلاح التي تغنّت بها الحكومة ليل نهار.
أما إرهاصات يمين الطلاق الثالث، فصدرت ملامحها، مع الانخراط الرسمي الأردني، في أحلاف مريبة غامضة الدوافع، لكنها جاءت تحصيل حاصل، على ما يبدو، للإجهاز الكامل على ثمرات الربيع العربي في بعض البلدان، ومن ذلك مؤازرة العصابة المضادّة بقيادة جنرال الكهوف، خليفة حفتر، لحكومة الشرعية الليبية لشعب أسقط طاغيته، ورام حريته، وهيأ نفسه لتجاوز عقود الاستبداد وإعدام المعارضين في موعد الإفطارات الرمضانية.
كان ثمّة انسجام وتماهٍ غريبان مع عصبة "المؤامرات العربية المتحدة"، التي ضمت الإمارات والسعودية وملحقاتهما من مصر إلى البحرين، التي تشكلت على عجل، إثر نجاح ثورة الربيع المصرية في إطاحة حسني مبارك؛ لتبدأ بعدها مرحلة التواطؤ على سائر بلدان الربيع، على غرار ما حدث لليمن من تدخل سياسي وعسكريّ فج، أعاد البلاد إلى عهد فيضان سدّ مأرب، وعلى غرار المحاولات المحمومة، أيضًا؛ للتدخل في الشأن التونسي، وإعادة عقارب الساعة إلى مرحلة الجمود على عهد "الحبيب" بورقيبة، وتلميذه "الأحب" زين العابدين بن علي.
تأسيسًا على ما سبق، كله وأغزر، كان لا بدّ ليمين الطلاق الثالث أن يقع، وإن جاءت قشّته بتوقيف رسام كاريكاتير على خلفية سخريته من حاكم عربي، خذلته أميركا بعد أن أشادت به؛ لتوقيعه معاهدة تطبيع مجانية مع المحتل الصهيوني، غير أنها جحدته، حين ظنّ أنه سيحظى بدلالٍ يتيح له طلب مقاتلات أميركية متطورة. والواقع أنها فعلت حسنًا بهذه اللطمة؛ لأن هذه الطائرات لن تكون موجهةً إلى إسرائيل التي أصبحت "حليفًا"، بل على الأرجح؛ لضرب اليمن وليبيا، وغيرهما من دولٍ حققت الربيع أو هي في سبيله. كما وقع الطلاق قبل ذلك، بقرار تعسفي أفضى إلى حل أكبر نقابة مهنية هي نقابة المعلمين، وتوقيف ناشطين وصحافيين بذرائع واهية.
أما التوقيف "الكاريكاتوري" للزميل حجّاج، فجاء تتويجًا للطلاق الكامل والشامل، بين توجهين وموقفين لن تجمعهما الدار مرة أخرى، حتى تتزوج الحكومة من عريس جديد يدّعى الحرية.