في محلٍّ صغير في شارع بهار، جنوبي العاصمة الإيرانية طهران، يتفانى كل من محمود ومحمد صادق بصيرتي بعملهما. هما من أشهر خياطي البدلات الرسمية الرجالية في المدينة. لم يكونا كذلك قبل خمسة عقود، حين افتتحا هذا المحل. لكنهما صارا من أهم الخياطين، ويقصدهما المسؤولون الإيرانيين لتصميم ملابسهم، هم الذين يفضلونها محليّة الصنع.
على الرغم من شهرتهما، حافظ الرجلان على الطابع التقليدي البسيط لمحلهما. وفي وقت كان فيه الأخ الأصغر، محمد صادق، منشغلاً بالعمل، روى محمود لـ "العربي الجديد" قصة نجاحه وشقيقه.
محمود، المولود في بروجرد عام 1944، بدأ العمل من دون شقيقه برأس مال بسيط. حبّه للخياطة والتصميم جعلاه يصر على افتتاح محله هذا. يقول إنه من عائلة خياطين. كان والده وعمه معروفين جداً، إلا أن والده لم يسمح له بالاقتراب من مكنات الخياطة على الرغم من محاولته تقليده. وحين بلغ الـ 12 عاماً، وافق ابن خالته، وهو خياط أيضاً، على مساعدته على تعلم المهنة بعد إلحاحه. وضع كرسياً إلى جانبه وبدأ تسليمه بعض قطع القماش لتعلم الخياطة. شقيقه محمد صادق أيضاً تعلم المهنة من بقية أفراد العائلة.
كبر محمود وبدأ العمل في أحد محلات الخياطة كمساعد لصاحبه. بعدها، قرر افتتاح محل مستقل له ولشقيقه، لتحقيق الحلم الذي كان يراه صعباً آنذاك. يتذكر أن كثيرين في عائلته سخروا منه. أما هو، فما زال يذكر حتى اليوم زبونه الأول، الذي كان عاملاً في معمل لحجارة المرمر. كان أحد زبائن المحل القديم الذي عمل فيه. هذا الرجل شجع أصدقاءه أيضاً على القدوم إليه. ويشير بصيرتي إلى أن الزبون هو أفضل دعاية لمحل الخياطة، بالإضافة إلى جودة وإتقان العمل، ومراعاة الدقة في مواعيد التسليم، والبيع بأسعار مناسبة، وهو ما يحاول الحفاظ عليه حتى اليوم.
اقرأ أيضاً: مهسا أحمدي.. الإيرانيّة الأولى التي تمتهن القتال في الأفلام
شعرَ أن الحظّ بدأ يطرق بابه حين لحق به أكثر من نصف زبائن معلّمه السابق. لم يتوقع أن ينال الشهرة التي أرادها وشقيقه بهذه السرعة. بعد سنوات قليلة، زاره محمود غلسرخي، وهو أحد أفراد عائلات السلاطين البهلوية، التي حكمت البلاد قبل الثورة الإسلامية نهاية سبعينيات القرن الماضي. صمّم محمود للرجل البدلة التي يريد، وصار يثق به كثيراً. وفي إحدى المرات، دعاه إلى حفل استقبال حضره مسؤولون من البلاط الشاهنشاهي البهلوي. جرب غلسرخي بدلته إيرانية الصنع، التي أخاطها محمود، وبدلة أخرى إيطالية الصنع، وسأل الحضور بعدها عن رأيهم في البدلتين، ففضل معظم الضيوف الأولى. حينها، قال غلسرخي إنه يجب دعم الإنتاج الوطني وتشجيعه. لذلك، يجب على الجميع ارتداء البدلات الرسمية الإيرانية، طالما أنها جميلة وأنيقة. وفي السهرة نفسها، تعرّف محمود على رئيس الوزراء آنذاك، أمير عباس هويدا، وبات خياطه. بعدها، أصبح خياطاً لمسؤولين ووزراء وسفراء آخرين.
يقول محمود إن محلّه لم يعد يتّسع لزبائنه الكثر، إلى أن قامت الثورة عام 1979، ودخلت البلاد في مرحلة توتر وعدم استقرار مؤقتين. في ذلك الوقت، قال البعض إن الشقيقين محسوبان على البلاط الشاهنشاهي الذي أطاحت به الثورة، فأحرق محله مما أدى إلى تكبده خسائر كبيرة. بعدها، عرض عليه أحد معارفه، الذين غادروا البلاد السفر إلى فرنسا، على أن يفتح له محلاً لتصميم البدلات براتب جيد. إلا أن محمود رفض وقد بات عاجزاً عن مغادرة البلاد. وكما حقّق حلمه في المرة الأولى، سيكون قادراً على تحقيقه ثانية.
انتظرَ استتباب الأمن وعودة الاستقرار إلى الشوارع، واستعاد شهرته. حتى أن بعض الإيرانيين والسفراء، الذين كانوا في إيران وغادروها، ما زالوا يتواصلون معه لخياطة بدلات لهم. يوضح أنه يتولى مهمة التفصيل والقص، فيما يخيطها محمد. يصر الشقيقان على أن يخيطا كل بدلة على حدة. يفضلان أن يحافظا على خصوصية كل شخص. بالنسبة إليهما، الخياطة فن.
يرفض الإفصاح عن أسماء المسؤولين الحاليين، الذين يخيط لهم ملابسهم. يقول إنهم وزراء ونواب. ويلفت إلى أنه يصمم البدلات فحسب، ولا يصمم الملابس التي يرتديها رجال الدين. ذلك تخصص آخر، على حد قوله.
يأتي هؤلاء مع مرافقيهم وحراسهم الشخصيين إلى محله مرة واحدة. يأخذ مقاساتهم، ويرسل البدلات التي يطلبونها من دون أن يحضروا إلى محله. وعلى الرغم من كل هذه الشهرة، يشير إلى أنه حافظ على أسعار جيدة نسبياً، لافتاً إلى أن هذا الأمر جيد له وللمسؤول.
على الرغم من المطبات التي واجهاها، استطاعا تحقيق ما يريدان. اليوم، يتوليان تصميم ثياب كل أفراد العائلة اليوم، وخصوصاً بدلات الحفلات والأعراس. ويقول محمود إن في هذا خصوصية بالغة، ويحرص وشقيقه على الاهتمام بعائلتهما أولاً.
اقرأ أيضاً: خليل عقاب.. "البطل الأعجوبة" الذي أسّس أول سيرك إيراني