15 سبتمبر 2023
الأردن.. عندما ينتصر الشارع وترحل حكومة
لم تكن النتيجة التي انتهت إليها حكومة هاني الملقي في الأردن بعيدة عن التوقع، فلطالما توقع العارفون والمراقبون أن الانفجار الاجتماعي مقبل في حال استمرت تلك الحكومة في تجاهل الغضب الشعبي، جرّاء نتائج سياساتها، وكانت القشّة التي قصمت ظهر الحكومة الراحلة، قرارها رفع أسعار المحروقات يوم 30 مايو/ أيار الماضي، بعد إضراب عام وشامل نُفذ قبل يومين منه، وكانت الحكمة بعيدة عن عقل الحكومة، وبقيّة أذرعها التي هوّنت من ردة الفعل الشعبية، وأعطت تقارير تبسط الموقف/ وتقول إن ما يحدث "سحابة صيف عابرة".
كان الملقي في أوج غضبه ونزقه دوماً. وفي مقابل حكومته التي أثخنتها التعديلات، وأسقط فيها الملقي نخباً مجربة، مثل سلامه حماد ومحمد الذنيبات وممدوح العبادي وناصر جوده، وآخرهم جمال الصرايرة، وكان هناك مجلس نواب لغالبيته مصالح مع الحكومة، وينتظر وعودها في تعيينات للخواص، وثمة قلة من النواب المعارضين للحكومة بشكل محترم.
مع مرور الوقت، وتكرار إخفاقات الملقي، أضحى منح الثقة بحكومته، في تراجع كبير، وتنامى حجم المعارضة لها داخل مجلس النواب، ولعل مؤشر الثقة بدا منهاراً خلال طرح مذكرة التصويت على الثقة بالحكومة في شهر فبراير/ شباط الماضي والتي تبنتها كتلة الإصلاح (الإخوان المسلمين)، وكان مؤشراً ذا دلالة على أنّ الثقة بالحكومة، بسبب سياستها رفع
الأسعار، تتجه إلى الخلف إلى حدّ الأزمة. وآنذاك، انتهت جلسة طرح الثقة بتصويت 67 نائبًا على عدم الحجب، بحيث تقلّص عدد مانحي الثقة بالحكومة عند التشكيل من 84 نائبًا إلى 67 من 122 عُضوًا في البرلمان، حَضروا جلسة طرح الثقة على خلفية مذكرة كتلة الإصلاح. فبعدما أصرّ الحاجبون على طَرح مذكّرتهم بخصوص الثقة بالحكومة بعد رفع الأسعار، وأصر الملقي في المقابل على التصويت، ظاناً انه سيحصل على ثقةٍ تجدد بقاءه، ارتفع الحاجبون عن الحكومة إلى 49 نائبًا، وهو عدد ليس هيّنًا، وقد حدث ليلة طرح الثقة أن أربك الملقي الأجهزة ومؤسسات الدولة، وطالبها أن تتدخل لصالحة لضمان ثقة أكبر، مقارناً حكومته بحكومة سلفه عبدالله النسور، حين حصلت على تجديد ثقة في مذكرة طرح الثقة عقب استشهاد القاضي رائد زعيتر، وبذل ممدوح العبادي، نائب الملقي، جهداً كبيراً في استقطاب من استقطب لإنقاذ الحكومة من الهاوية، ثم بعد الثقة ضحى الملقي بالعبادي، وأدخل جمال الصرايرة متكئاً على شعبية الأخير بسبب الدعم الذي قدّمه للنواب والمجتمعات المحلية إبّان رئاسته مجلس إدارة شركة البوتاس.
لم تفعل التمائم ولا أعمال المشعوذين شيئاً لإبقاء هاني الملقي رئيساً للوزراء، فقد كانت حقائق الاستطلاعات مرعبة عن مؤشرات التراجع بالثقة وغياب القادة، وأكدت أنّ الحكومة تتهاوى بعين النخب والعينة الوطنية، بحيث تفوق الملقي في الإخفاق على كل من سبقوه. ولكن للأسف ظلّ الرجل، بعين الملك ونخبته، خياراً باقياً، وسط آراء تيار الطاعة والولاء المقرّب للقصر بأن الحكومة يجب أن تتم مُدتها، وأن زمن الاستجابة لمطالب الجماهير انتهى.
كان الملك عبدالله الثاني غير مطمئن، ولديه تقديرات أمنية تحدّثت، بعد رفع أسعار الخبز، عن تململ شعبي، ساهمت مسألة نقل السفارة الأميركية في تل أبيب إلى القدس، وموقف الأردن الرافض له، في تأجيل ظهور نيرانه تجاه الحكومة التي وجدت أنها في ظروف أفضل، وبدأت بعد رفع أسعار الخبز تتحدث عن قانون ضريبة الدخل، وبات وزير المالية، عمر ملحس، ذو الخلفية البنكية ونائب رئيس الحكومة، القادم من مكتب الملك، أكثر شراسة، وظهر لاحقاً أن نائب رئيس الوزراء وزير الدولة للشؤون الاقتصادية، جعفر حسان، سدّد المطلوب منه للضريبة، قبل إرسال مشروع القانون إلى مجلس النواب بأيام.
حاول الملك تدارك الأمر قبل إرسال مشروع القانون إلى مجلس النواب، فأعلن في الجامعة الأردنية في لقاء مع طلابها، في نهاية يناير/ كانون الثاني المنصرم، أنّ التعويل في التغيير على الشباب، وطالبهم برفع أصواتهم، وأنهم "إن ضغطوا من تحت سيضغط هو من فوق". ولاحقاً قامت احتجاجات في السلط والكرك، ولدى شباب بني حسن، من دون أن يظهر قادة للحراك، وتطوعت الأجهزة الأمنية بلملمة الأمر وإنهاء الاحتجاج، وبقيت مظاهره بسيطة، لكنه لم ينقطع.
تزامن إرسال مشروع قانون الضريبة مع صعود التيار القومي في مجمع النقابات، وتراجع الإسلاميين، فتوفرت هذه المرة فرصة صدارة النقابات المشهد، وهي التي يهدّدها مباشرة قانون الضريبة، وهي أكثر الفئات مهدّدة منه، وكثيرون من المنتسبين إليها من الأكثر تهرباً من أداء ضريبة الدخل، سواء من الأطباء أو المحامين الكبار، فالحكومات لا تعرف كيف تضبط دخلهم وتحدده.
"الجوع أكلنا" و"مسّنا الضر" و"معناش ندفع" كانت شعارات المحتجين وما زالت، وأنبأت
عن شعب جاع، يريد اليوم تغيير النهج، وهو شعار ضبابي، غلافه، حسب الحراك، أنهم اليوم لا يريدون الوجوه ذاتها، ويريدون حكومةً تنتج مشاريع وتكافح الفساد، لكن إن فشلت الحكومة المقبلة بإقناع الجمهور بتجديد حقيقي، فستظهر شعارات أخرى أكثر جرأة.
يريد الشعب في تغيير النهج "جلب وليد الكردي صهر الملك المحكوم بالفساد"، ويريدون عطاءات الفوسفات مطروحة بشكل شفاف، ومحاسبة الفاسدين، وتطبيق توصيات تقارير ديوان المحاسبة، والمجيء بوجوه نظيفة ونزيهة، ووقف الهدر في النفقات، وتخفيض رواتب المسؤولين الكبار والوزراء؟
في ظلال هذه المطالب شعار "الحرية" باقٍ، شباب تحت سن الثلاثين هم من شكلوا البنية الأساسية لحراك إطاحة الملقي، هم مجموعات واعية ومتعلمة، لا وجود لجماعة الإخوان المسلمين، بشكل لافت أو مؤثر، الأمر الذي حير الجميع، وظهر السؤال في الغرف المغلقة: أين الإخوان؟ لم يجيبوا على سؤال الغياب، فقد كان أداء كتلتهم في البرلمان هو الأفضل، مع مجموعة النواب المعارضين للحكومة الآخرين من خارج الكتلة، فيما ظهر عيب السواد الأعم من مجلس النواب، وفي فيديو لاجتماع اللجنة المالية برئاسة النائب أحمد الصفدي بلقاء وزير المالية، بدا اللقاء مليئاً بالسخرية والفوضى. وظهر وزير المالية كصياد بلا عقل، يريد الاصطياد بأكتافه العريضة التي تعيق إمساكه البندقية جيداً، وبدا النواب مثل فرس النهر، يرفع رأسه فوق الماء، فيظهر الجبين والأنف والعيون فقط، ويغب بباقي جسده الضخم تحته طويلاً، طلباً للبراد، فبطنه ممتلئ بالفساد.
وليت أن الشعب الأردني لم يرَ تداول مصيره بين يدي لجنة المجلس المالية، ولا تذكر ما يحدث بين الحكومة والمجلس من وعود وصفقات، لكنه تذكّر ووعى اليوم ما يُحاك ضده، فكان الخروج العام في كل مدن الأردن مطالبةً بسقوط الحكومة ومجلس النواب. على الأقل، إن لم يرحلا معاً فسترحل الحكومة، وهو ما حدث. وما أن أعلن الرحيل حتى اكتشف الشعب أنه أمام لحظة مطلبية توحيدية له في مواجهة فشل الحكومات، والذين قالوا إن الحراك مؤامرة، كان عليهم أن يكتفوا برد الملك بشأن ما حصل، وأنه يتشرف بأنه ينتمي لهذا الشعب الذي خرج ضد عجز حكومته ونهجها وأسقطها.
كان الملقي في أوج غضبه ونزقه دوماً. وفي مقابل حكومته التي أثخنتها التعديلات، وأسقط فيها الملقي نخباً مجربة، مثل سلامه حماد ومحمد الذنيبات وممدوح العبادي وناصر جوده، وآخرهم جمال الصرايرة، وكان هناك مجلس نواب لغالبيته مصالح مع الحكومة، وينتظر وعودها في تعيينات للخواص، وثمة قلة من النواب المعارضين للحكومة بشكل محترم.
مع مرور الوقت، وتكرار إخفاقات الملقي، أضحى منح الثقة بحكومته، في تراجع كبير، وتنامى حجم المعارضة لها داخل مجلس النواب، ولعل مؤشر الثقة بدا منهاراً خلال طرح مذكرة التصويت على الثقة بالحكومة في شهر فبراير/ شباط الماضي والتي تبنتها كتلة الإصلاح (الإخوان المسلمين)، وكان مؤشراً ذا دلالة على أنّ الثقة بالحكومة، بسبب سياستها رفع
لم تفعل التمائم ولا أعمال المشعوذين شيئاً لإبقاء هاني الملقي رئيساً للوزراء، فقد كانت حقائق الاستطلاعات مرعبة عن مؤشرات التراجع بالثقة وغياب القادة، وأكدت أنّ الحكومة تتهاوى بعين النخب والعينة الوطنية، بحيث تفوق الملقي في الإخفاق على كل من سبقوه. ولكن للأسف ظلّ الرجل، بعين الملك ونخبته، خياراً باقياً، وسط آراء تيار الطاعة والولاء المقرّب للقصر بأن الحكومة يجب أن تتم مُدتها، وأن زمن الاستجابة لمطالب الجماهير انتهى.
كان الملك عبدالله الثاني غير مطمئن، ولديه تقديرات أمنية تحدّثت، بعد رفع أسعار الخبز، عن تململ شعبي، ساهمت مسألة نقل السفارة الأميركية في تل أبيب إلى القدس، وموقف الأردن الرافض له، في تأجيل ظهور نيرانه تجاه الحكومة التي وجدت أنها في ظروف أفضل، وبدأت بعد رفع أسعار الخبز تتحدث عن قانون ضريبة الدخل، وبات وزير المالية، عمر ملحس، ذو الخلفية البنكية ونائب رئيس الحكومة، القادم من مكتب الملك، أكثر شراسة، وظهر لاحقاً أن نائب رئيس الوزراء وزير الدولة للشؤون الاقتصادية، جعفر حسان، سدّد المطلوب منه للضريبة، قبل إرسال مشروع القانون إلى مجلس النواب بأيام.
حاول الملك تدارك الأمر قبل إرسال مشروع القانون إلى مجلس النواب، فأعلن في الجامعة الأردنية في لقاء مع طلابها، في نهاية يناير/ كانون الثاني المنصرم، أنّ التعويل في التغيير على الشباب، وطالبهم برفع أصواتهم، وأنهم "إن ضغطوا من تحت سيضغط هو من فوق". ولاحقاً قامت احتجاجات في السلط والكرك، ولدى شباب بني حسن، من دون أن يظهر قادة للحراك، وتطوعت الأجهزة الأمنية بلملمة الأمر وإنهاء الاحتجاج، وبقيت مظاهره بسيطة، لكنه لم ينقطع.
تزامن إرسال مشروع قانون الضريبة مع صعود التيار القومي في مجمع النقابات، وتراجع الإسلاميين، فتوفرت هذه المرة فرصة صدارة النقابات المشهد، وهي التي يهدّدها مباشرة قانون الضريبة، وهي أكثر الفئات مهدّدة منه، وكثيرون من المنتسبين إليها من الأكثر تهرباً من أداء ضريبة الدخل، سواء من الأطباء أو المحامين الكبار، فالحكومات لا تعرف كيف تضبط دخلهم وتحدده.
"الجوع أكلنا" و"مسّنا الضر" و"معناش ندفع" كانت شعارات المحتجين وما زالت، وأنبأت
يريد الشعب في تغيير النهج "جلب وليد الكردي صهر الملك المحكوم بالفساد"، ويريدون عطاءات الفوسفات مطروحة بشكل شفاف، ومحاسبة الفاسدين، وتطبيق توصيات تقارير ديوان المحاسبة، والمجيء بوجوه نظيفة ونزيهة، ووقف الهدر في النفقات، وتخفيض رواتب المسؤولين الكبار والوزراء؟
في ظلال هذه المطالب شعار "الحرية" باقٍ، شباب تحت سن الثلاثين هم من شكلوا البنية الأساسية لحراك إطاحة الملقي، هم مجموعات واعية ومتعلمة، لا وجود لجماعة الإخوان المسلمين، بشكل لافت أو مؤثر، الأمر الذي حير الجميع، وظهر السؤال في الغرف المغلقة: أين الإخوان؟ لم يجيبوا على سؤال الغياب، فقد كان أداء كتلتهم في البرلمان هو الأفضل، مع مجموعة النواب المعارضين للحكومة الآخرين من خارج الكتلة، فيما ظهر عيب السواد الأعم من مجلس النواب، وفي فيديو لاجتماع اللجنة المالية برئاسة النائب أحمد الصفدي بلقاء وزير المالية، بدا اللقاء مليئاً بالسخرية والفوضى. وظهر وزير المالية كصياد بلا عقل، يريد الاصطياد بأكتافه العريضة التي تعيق إمساكه البندقية جيداً، وبدا النواب مثل فرس النهر، يرفع رأسه فوق الماء، فيظهر الجبين والأنف والعيون فقط، ويغب بباقي جسده الضخم تحته طويلاً، طلباً للبراد، فبطنه ممتلئ بالفساد.
وليت أن الشعب الأردني لم يرَ تداول مصيره بين يدي لجنة المجلس المالية، ولا تذكر ما يحدث بين الحكومة والمجلس من وعود وصفقات، لكنه تذكّر ووعى اليوم ما يُحاك ضده، فكان الخروج العام في كل مدن الأردن مطالبةً بسقوط الحكومة ومجلس النواب. على الأقل، إن لم يرحلا معاً فسترحل الحكومة، وهو ما حدث. وما أن أعلن الرحيل حتى اكتشف الشعب أنه أمام لحظة مطلبية توحيدية له في مواجهة فشل الحكومات، والذين قالوا إن الحراك مؤامرة، كان عليهم أن يكتفوا برد الملك بشأن ما حصل، وأنه يتشرف بأنه ينتمي لهذا الشعب الذي خرج ضد عجز حكومته ونهجها وأسقطها.