15 سبتمبر 2023
الأردن.. عودة الجمهور واختبار الدولة الصلبة
لعلّ أبرز الملامح الظاهرة في الأردن، في السنوات الأخيرة، عدم تعامل الحكومات بحرفية مع الأزمات السياسية المحلية، وهو تعامل لا يعكس تاريخ البلد وقدراته في مواجهة أزمات الإقليم التي مر بها أو انعكست عليه، كما أن إدارة الأزمات الراهنة لا تتناسب مع قدرات البلد الأمنية والاستخبارية، أو حجم الجهاز البيروقراطي العريض، فكيف تسنّى لهذا الإرث الكبير أن يرتبك في الأزمات، وتتحوّل المملكة من دولة صلبة في وجه أعاصير الإقليم إلى دولةٍ ليّنةٍ ترتبك حكوماتها في مواجهة عاصفة ثلجية أو إشاعة "ذهب عجلون"، أو سيل جارف (رحلة البحر الميت أخيرا) فيصعد البديل الجماهيري، بكل مغالطاته وحقائقه غير المنطقية أحياناً؟
فبعد تعديل حكومي لم يمر عليه شهر في حكومة عمر الزراز، والتي كانت تأمل بأن يقوّي تعديلها الأول عودها أمام الشارع الذي انتقد فريقها عند التشكيل، والذي دافع عنه الرزاز، وجدت الحكومة أنها تواجه اليوم جمهوراً فاقداً للثقة في التغيير الذي وعدَ به الرزاز، وحمل لواءه ومثّله، وخصوصا بعد تقديم حكومته نسخةً معدلةً بشكل طفيف عن قانون ضريبة الدخل الذي أودى بحكومة سلفه، هاني الملقي، إلى الخروج من المشهد السياسي. لكن ذلك الخروج الذي أصاب الملقي وقلّة من فريقه بعد احتجاجات الدوار الرابع (حيث رئاسة الحكومة في عمّان)، في يونيو/ حزيران الماضي، والذي شهد فيه الأردن أزمةً فريدةً في ظل سفر الملك يومها، فإن تأكيد حضور الجمهور في المشهد العام بات أكثر فاعلية، وأكثر عقلانية، وانتقل الجهمور من الميادين إلى العالم الافتراضي لشبكة الإنترنت، والبث المباشر للناشطين المعارضين من الخارج والداخل، فيما إعلام الدولة الذي لم يطوّر مهنيته وشروط وجوده، وما زال يلهث وراء جمهوره بأساليب تقليدية هشّة.
ومع كل المطبّات الحرجة التي مرّت بها حكومته (أزمتا التشكيل والتعديل وقضية الدخان ورحلة البحر الميت وقانونا الجرائم الإلكترونية والضريبة وإضراب عمال البلديات وغيرها) يحاول الرزاز الذي ما زال أحد عناوين تلازم "الأخلاق مع السياسة" جماهيرياً، والتي تُعبر عن ثنائية صعبة البقاء، في مجتمع يرتفع به الانقسام والصراع الاجتماعي يوما بعد يوم، يحاول أن يُلملم صورته الطيبة من جديد، ويدعو الأردنيين إلى عدم الإغراق بالتوقعات الكبيرة من حكومته، في ظل ظروفٍ صعبةٍ وطنيا، وخصوصا في الاقتصاد، والذي جاءت أحد أهم موشرات صعوباته أخيرا بإعلان البنك المركزي عن انخفاض مخزونه من العملة الصعبة.
ومع ذلك، وإذ يحافظ الرزّاز على حالة التفاؤل به من شارع عريض، يلقاه في جولاته خارج العاصمة، إلا أن تدنّي الثقة به، من 81% في يونيو/ حزيران إلى 54% في سبتمبر/ أيلول، وفق استطلاع مركز نماء للرأي أخيرا، جاء صادما له، ما دعاه إلى الإسراع بالتعديل الأول على حكومته، والالتزام بمهلة المائة يوم التي طلبها من نواب الشعب، كي يقيم أداء فريقه، محاولاً تمتينه بإدخال وجوه جديدة، واخراج بعض أعضاء الفريق، ودمج بعض الوزارات.
لاحقاً، وفي سبيل إعادة بناء رصيد الثقة وترميمه، قامت الحكومة بإجراءٍ طالما انتظره الناس وطالبوا به، وهو دمج موازنة بعض الهيئات المستقلة مع موازنة الحكومة العامة، حرصاً على التوفير وضبط النفقات، وبلغ عدد المؤسسات نحو 45 مؤسسة وهيئة مستقلة، لكن الذي دُمج، برأي خبراء في القطاع العام، شبيه بشكل كبير في الضبط والصرف لمثل بقية الوزارات، وأن موازنات المؤسسات المدمجة محدودة، وأن المؤسسات المستقلة التي لم يستطع الرزّاز دمج موازنتها، والتي فلتت من الإجراء هي التي تُرهق الموازنة، وتنفق من دون ضبط، ورواتب منسوبيها خيالية.
تزامن ذلك كله مع حراك داخلي بشأن موضوع أراضي الغمر والباقورة، والتي انتصر بأمرها الملك للشارع والمصالح الوطنية، لكن حتى تلك الورقة التي اعتبرت رابحةً بيد الملك لم تدم فرحتها كثيرا، على الرغم من أنها تعبر عن قرار شجاع، وفي ظرفٍ صعب، فجاءت حادثة
البحر الميت المفجعة، والتي كشفت عن عدم تنسيق حكومي بين الوزراء، وعن تخبّط، فإذا بمشاهد حكومية سابقة في الأزمات تتكرّر. ولتفتح الأزمة شهية مجلس النواب الذي تعتبر شعبيته والثقة به في أدنى مستوياتها، إلى محاولة استعادة العلاقة مع الشعب، فجّرت محاكمة الحكومة عبر جلسات مساءلة ونقاش واستدعاء للوزراء، وانتهت بتقرير نيابي.
في موازاة هذا النضوب في شعبيتها، تشدّد الحكومة على محاربة الفساد الذي أظهره تقرير ديوان المحاسبة أخيرا، كما أنها تسعى إلى تشاركية أوسع مع النخب والحوار وتقليل الإنفاق المالي، للإبقاء على الأمل عند الناس بالتغيير، في مقابل جمهور إلكتروني لا يصدّق ما تبثه الحكومة، ويرى أنّ البلد ينشغل ويغرق في حرب تصريحاتٍ إعلامية، لمغالبة الجهمور الذي بات يثير مواضيع كثيرة، ويناقش سياسات التضييق على الحريات، ويصدر البيانات، في محاولةٍ لتوكيد موقف رافض مسبقا قانون الجرائم الإلكترونية الجديد. لتأتي بعد ذلك مقالة للملك عبدالله الثاني بعنوان "شبكات التواصل والتناحر الاجتماعي"، لم يفوّت فيها الفرصة للتعبير عن إيجابيات هذه الشبكات، وأهميتها في إيصال صوت الناس إليه، كما كتب "دون فلترة"، لكنها، في الوقت نفسه، باتت تنشر خصوصياتٍ كثيرة، وهجوما على الشخصيات العامة والعادية. وأبان الملك، في مقالته، أن الحاجة ماسّة لوضع تشريعات ناظمة وضابطة، وهو ما اعتبره بعضهم تمهيداً للقانون الجديد للجرائم الإلكترونية، والذي يراه كثيرون مقيداً للحريات، ويدخل البلد في حالة جديدة من الانسداد.
يتزامن هذا التخوف مع منع فعاليات ثقافية وفكرية أخيرا. وهنا، فإن الجديد الذي يخشاه أنصار الدولة المدنية والحريات يكمن في تصاعد حجج المنع، وهوية الداعين إليه، في بلدٍ قرّر قبل عام إعادة تدريس الفلسفة متطلبا جامعيا، وهو أمر عمل عليه الوزير المستقيل، عزمي محافظة، إبّان رئاسته الجامعة الأردنية، وهو اجتهاد لم ترضه أو تقبله البنية المتشدّدة في المجتمع، والتي تحمل الحكومات مسوؤلية ترخيص المناسبات "الإباحية" او "الخارجة على التقاليد والعادات والشرع" كما توصف.
في الختام، حتى في المسار المفترض لبقاء حكومة الرزاز عامين مقبلين، فالثابت أن رحيل الحكومات قبل موعدها في الأردن لا يقدم حلولاً لواقعٍ أردني ضاغط اقتصادياً، لكن اللافت في الأردن أن الدولة، شديدة البُنية والصلبة، حين تختبر في الأزمات المحلية يصيب الارتباك مسؤوليها التنفيذيين، ويصبح كل واحد منهم يُلقي المسوؤلية عن ظهره، ما يجعل مراجعة سمعة البيروقراط الأردني، وتحسين كفاءته، أمراً في غاية الأهمية.
فبعد تعديل حكومي لم يمر عليه شهر في حكومة عمر الزراز، والتي كانت تأمل بأن يقوّي تعديلها الأول عودها أمام الشارع الذي انتقد فريقها عند التشكيل، والذي دافع عنه الرزاز، وجدت الحكومة أنها تواجه اليوم جمهوراً فاقداً للثقة في التغيير الذي وعدَ به الرزاز، وحمل لواءه ومثّله، وخصوصا بعد تقديم حكومته نسخةً معدلةً بشكل طفيف عن قانون ضريبة الدخل الذي أودى بحكومة سلفه، هاني الملقي، إلى الخروج من المشهد السياسي. لكن ذلك الخروج الذي أصاب الملقي وقلّة من فريقه بعد احتجاجات الدوار الرابع (حيث رئاسة الحكومة في عمّان)، في يونيو/ حزيران الماضي، والذي شهد فيه الأردن أزمةً فريدةً في ظل سفر الملك يومها، فإن تأكيد حضور الجمهور في المشهد العام بات أكثر فاعلية، وأكثر عقلانية، وانتقل الجهمور من الميادين إلى العالم الافتراضي لشبكة الإنترنت، والبث المباشر للناشطين المعارضين من الخارج والداخل، فيما إعلام الدولة الذي لم يطوّر مهنيته وشروط وجوده، وما زال يلهث وراء جمهوره بأساليب تقليدية هشّة.
ومع كل المطبّات الحرجة التي مرّت بها حكومته (أزمتا التشكيل والتعديل وقضية الدخان ورحلة البحر الميت وقانونا الجرائم الإلكترونية والضريبة وإضراب عمال البلديات وغيرها) يحاول الرزاز الذي ما زال أحد عناوين تلازم "الأخلاق مع السياسة" جماهيرياً، والتي تُعبر عن ثنائية صعبة البقاء، في مجتمع يرتفع به الانقسام والصراع الاجتماعي يوما بعد يوم، يحاول أن يُلملم صورته الطيبة من جديد، ويدعو الأردنيين إلى عدم الإغراق بالتوقعات الكبيرة من حكومته، في ظل ظروفٍ صعبةٍ وطنيا، وخصوصا في الاقتصاد، والذي جاءت أحد أهم موشرات صعوباته أخيرا بإعلان البنك المركزي عن انخفاض مخزونه من العملة الصعبة.
ومع ذلك، وإذ يحافظ الرزّاز على حالة التفاؤل به من شارع عريض، يلقاه في جولاته خارج العاصمة، إلا أن تدنّي الثقة به، من 81% في يونيو/ حزيران إلى 54% في سبتمبر/ أيلول، وفق استطلاع مركز نماء للرأي أخيرا، جاء صادما له، ما دعاه إلى الإسراع بالتعديل الأول على حكومته، والالتزام بمهلة المائة يوم التي طلبها من نواب الشعب، كي يقيم أداء فريقه، محاولاً تمتينه بإدخال وجوه جديدة، واخراج بعض أعضاء الفريق، ودمج بعض الوزارات.
لاحقاً، وفي سبيل إعادة بناء رصيد الثقة وترميمه، قامت الحكومة بإجراءٍ طالما انتظره الناس وطالبوا به، وهو دمج موازنة بعض الهيئات المستقلة مع موازنة الحكومة العامة، حرصاً على التوفير وضبط النفقات، وبلغ عدد المؤسسات نحو 45 مؤسسة وهيئة مستقلة، لكن الذي دُمج، برأي خبراء في القطاع العام، شبيه بشكل كبير في الضبط والصرف لمثل بقية الوزارات، وأن موازنات المؤسسات المدمجة محدودة، وأن المؤسسات المستقلة التي لم يستطع الرزّاز دمج موازنتها، والتي فلتت من الإجراء هي التي تُرهق الموازنة، وتنفق من دون ضبط، ورواتب منسوبيها خيالية.
تزامن ذلك كله مع حراك داخلي بشأن موضوع أراضي الغمر والباقورة، والتي انتصر بأمرها الملك للشارع والمصالح الوطنية، لكن حتى تلك الورقة التي اعتبرت رابحةً بيد الملك لم تدم فرحتها كثيرا، على الرغم من أنها تعبر عن قرار شجاع، وفي ظرفٍ صعب، فجاءت حادثة
في موازاة هذا النضوب في شعبيتها، تشدّد الحكومة على محاربة الفساد الذي أظهره تقرير ديوان المحاسبة أخيرا، كما أنها تسعى إلى تشاركية أوسع مع النخب والحوار وتقليل الإنفاق المالي، للإبقاء على الأمل عند الناس بالتغيير، في مقابل جمهور إلكتروني لا يصدّق ما تبثه الحكومة، ويرى أنّ البلد ينشغل ويغرق في حرب تصريحاتٍ إعلامية، لمغالبة الجهمور الذي بات يثير مواضيع كثيرة، ويناقش سياسات التضييق على الحريات، ويصدر البيانات، في محاولةٍ لتوكيد موقف رافض مسبقا قانون الجرائم الإلكترونية الجديد. لتأتي بعد ذلك مقالة للملك عبدالله الثاني بعنوان "شبكات التواصل والتناحر الاجتماعي"، لم يفوّت فيها الفرصة للتعبير عن إيجابيات هذه الشبكات، وأهميتها في إيصال صوت الناس إليه، كما كتب "دون فلترة"، لكنها، في الوقت نفسه، باتت تنشر خصوصياتٍ كثيرة، وهجوما على الشخصيات العامة والعادية. وأبان الملك، في مقالته، أن الحاجة ماسّة لوضع تشريعات ناظمة وضابطة، وهو ما اعتبره بعضهم تمهيداً للقانون الجديد للجرائم الإلكترونية، والذي يراه كثيرون مقيداً للحريات، ويدخل البلد في حالة جديدة من الانسداد.
يتزامن هذا التخوف مع منع فعاليات ثقافية وفكرية أخيرا. وهنا، فإن الجديد الذي يخشاه أنصار الدولة المدنية والحريات يكمن في تصاعد حجج المنع، وهوية الداعين إليه، في بلدٍ قرّر قبل عام إعادة تدريس الفلسفة متطلبا جامعيا، وهو أمر عمل عليه الوزير المستقيل، عزمي محافظة، إبّان رئاسته الجامعة الأردنية، وهو اجتهاد لم ترضه أو تقبله البنية المتشدّدة في المجتمع، والتي تحمل الحكومات مسوؤلية ترخيص المناسبات "الإباحية" او "الخارجة على التقاليد والعادات والشرع" كما توصف.
في الختام، حتى في المسار المفترض لبقاء حكومة الرزاز عامين مقبلين، فالثابت أن رحيل الحكومات قبل موعدها في الأردن لا يقدم حلولاً لواقعٍ أردني ضاغط اقتصادياً، لكن اللافت في الأردن أن الدولة، شديدة البُنية والصلبة، حين تختبر في الأزمات المحلية يصيب الارتباك مسؤوليها التنفيذيين، ويصبح كل واحد منهم يُلقي المسوؤلية عن ظهره، ما يجعل مراجعة سمعة البيروقراط الأردني، وتحسين كفاءته، أمراً في غاية الأهمية.