09 نوفمبر 2024
الأسوياء والمختلّون في مجتمعاتنا
درجت العادة، في مجتمعاتنا العربية، على وصم من يرتكبون جرائم قتل فظيعة، من غير محترفي الإجرام، بأنهم "مختلون عقلياً"، انطلاقاً من افتراضٍ مفاده بأن ارتكاب تلك الجرائم لا يجوز أن يصدر عن إنسانٍ سويٍّ نفسياً، ما يعني أن أفراد هذه المجتمعات يعتبرون أنفسهم أسوياء، وأن بعضهم فقط هم المختلون عقلياً ونفسياً (هذا لا يشمل الاغتيال السياسي طبعاً).
لكن تتبع ظروف مرتكبي الجرائم، غير المحترفين، يكشف عادةً أنهم ما كانوا ليرتكبوا جرائمهم، لولا ضغوط نفسية هائلة وضعت عليهم، ولولا ظروف غير سوية مرّوا بها في مسيرة حياتهم. لا تأخذ المجتمعات التي تتهم هؤلاء بالاختلال العقلي تلك الظروف والضغوط باعتبارها، بل تفترض أن المجرم استيقظ صباحاً، فكان يعاني من اختلالٍ في قدرته على التفكير واتخاذ القرار، ما دفعه إلى ارتكاب جريمته، هكذا بكل بساطة، ومن دون ظروف صعبة وضغوط اجتماعية!
بالطبع، لا يصدر تناسي تلك الضغوط الاجتماعية من فراغ، بل عن عمدٍ، لأن مجتمعاتنا لا تريد أن تعترف بدور الضغوط التي تفرضها على أفرادها، في وقوعهم في أتون الجريمة. تلك الضغوط التي تُفرض على الجميع من دون استثناء، تتنوّع بين تدخلٍ في الحياة الخاصة، وتتبع لحياة الفرد اليومية، وملاحقته في حريته الشخصية، وفرض الخيارات عليه في مختلف مراحل حياته، انطلاقاً من اعتباره غير قادرٍ على اتخاذ القرار بغير مشورة "الجماعة" التي تظن أنها، وحدها، تعرف الخير من الشر، فهو لا مكان له ولا دور، إلا في تطبيق قيم المجتمع تلك، والتزامها بحذافيرها.
هكذا يكون معنى الإنسان السويّ في مجتمعاتنا، هو ذاك الذي يحتمل ضغوط المجتمع، ويصمت عليها. في حين يكون المختلّ عقلياً، هو من ينفجر في وجه الضغوط، ولا يستطيع الصبر عليها، فيرتكب جريمته، ردّاً على جريمة المجتمع تجاهه، المتمثلة بالتدخل في خصوصياته، وإفساد حياته.
نحن لا نبرّر الجريمة، بل نبحث عن فهم يحول دون وقوعها. ما يجري في مجتمعاتنا لا يُفسره فقط ما تعيشه من حرمان، بل قبل ذلك ما تعانيه من انتهاكٍ للكرامة الفردية، يتمثل في سلب المرء حريته في التفكير واتخاذ القرار، وذلك باسم إرشاده إلى الصواب، وإكراهه على نمطيةٍ معينةٍ من القيم، تعوّد عليها المجتمع، ويخاف تغييرها لأنه يخاف المجهول.
إن "ألغازاً" كثيرة تعيشها مجتمعاتنا، بما فيها تخلّفها الحضاري، ووقوعها رهن الاستبداد السياسي، يمكن حلّها انطلاقاً من إشاعة الحريات الفردية، وتخلي المجتمع عن ديكتاتوريته القيمية على أفراده التي تخوّله التدخل في حياتهم، فتفرض على فلان أن لا يفعل ما يرتاح له، وعلى آخر أن لا يتصرّف بوقته كما يشاء، وعلى ثالثٍ أن لا يتزوج من يحب، وعلى غيرهم أن يستدين، أو يطلّق زوجته، أو يهجر أولاده، أو يعمل في مهنةٍ لا يحبها، أو يعيش في بيئةٍ لا يطيقها، أو يفرض على نفسه التزاماتٍ لا قبل له بها.. إلخ، وذلك كله باسم العقل والاتزان، وهو "الاتزان" الذي ينتهي إلى إيجاد مجتمعٍ متوتر، لا يجد صفاء ذهنياً يمكّنه من تطوير قدراته، وتنظيم ذاته، فلا يخرج فيه قادة عظماء، ولا مخترعون كبار، ولا مفكرون قادرون على إعادة توجيه التاريخ لصالح النهضة والتغيير. فأي اتزان هذا؟!
المجتمعات المتخلّفة، والمسحوقة، التي تتسبب هي ذاتها بمأساتها، لأنها تحرم نفسها حريتها، على الرغم من توافر فرص التغيير بأيديها، هي، في الحقيقة، المختلّة عقلياً، وليس أفرادها الذين يحتّجون على سلب إرادتهم، وانتهاك حريتهم، بطريقةٍ متطرفة، فيقعون في الجريمة في لحظةٍ ينفد فيها صبرهم، ولا يستطيعون متابعة حياةٍ لم يختاروها، فيعلنوا على الملأ أنهم لم يعودوا جزءاً من المعايير القيمية البالية التي تتخذها مجتمعاتهم.
لا تولد الجريمة فجأة. إنها مسؤولية مجتمعية، وبالذات تجاه غير محترفي الإجرام، ولا يجوز أن تظل تهمة "الاختلال العقلي" وسيلةً لتبرئة المجتمع من دوره في صنع الجريمة.
لكن تتبع ظروف مرتكبي الجرائم، غير المحترفين، يكشف عادةً أنهم ما كانوا ليرتكبوا جرائمهم، لولا ضغوط نفسية هائلة وضعت عليهم، ولولا ظروف غير سوية مرّوا بها في مسيرة حياتهم. لا تأخذ المجتمعات التي تتهم هؤلاء بالاختلال العقلي تلك الظروف والضغوط باعتبارها، بل تفترض أن المجرم استيقظ صباحاً، فكان يعاني من اختلالٍ في قدرته على التفكير واتخاذ القرار، ما دفعه إلى ارتكاب جريمته، هكذا بكل بساطة، ومن دون ظروف صعبة وضغوط اجتماعية!
بالطبع، لا يصدر تناسي تلك الضغوط الاجتماعية من فراغ، بل عن عمدٍ، لأن مجتمعاتنا لا تريد أن تعترف بدور الضغوط التي تفرضها على أفرادها، في وقوعهم في أتون الجريمة. تلك الضغوط التي تُفرض على الجميع من دون استثناء، تتنوّع بين تدخلٍ في الحياة الخاصة، وتتبع لحياة الفرد اليومية، وملاحقته في حريته الشخصية، وفرض الخيارات عليه في مختلف مراحل حياته، انطلاقاً من اعتباره غير قادرٍ على اتخاذ القرار بغير مشورة "الجماعة" التي تظن أنها، وحدها، تعرف الخير من الشر، فهو لا مكان له ولا دور، إلا في تطبيق قيم المجتمع تلك، والتزامها بحذافيرها.
هكذا يكون معنى الإنسان السويّ في مجتمعاتنا، هو ذاك الذي يحتمل ضغوط المجتمع، ويصمت عليها. في حين يكون المختلّ عقلياً، هو من ينفجر في وجه الضغوط، ولا يستطيع الصبر عليها، فيرتكب جريمته، ردّاً على جريمة المجتمع تجاهه، المتمثلة بالتدخل في خصوصياته، وإفساد حياته.
نحن لا نبرّر الجريمة، بل نبحث عن فهم يحول دون وقوعها. ما يجري في مجتمعاتنا لا يُفسره فقط ما تعيشه من حرمان، بل قبل ذلك ما تعانيه من انتهاكٍ للكرامة الفردية، يتمثل في سلب المرء حريته في التفكير واتخاذ القرار، وذلك باسم إرشاده إلى الصواب، وإكراهه على نمطيةٍ معينةٍ من القيم، تعوّد عليها المجتمع، ويخاف تغييرها لأنه يخاف المجهول.
إن "ألغازاً" كثيرة تعيشها مجتمعاتنا، بما فيها تخلّفها الحضاري، ووقوعها رهن الاستبداد السياسي، يمكن حلّها انطلاقاً من إشاعة الحريات الفردية، وتخلي المجتمع عن ديكتاتوريته القيمية على أفراده التي تخوّله التدخل في حياتهم، فتفرض على فلان أن لا يفعل ما يرتاح له، وعلى آخر أن لا يتصرّف بوقته كما يشاء، وعلى ثالثٍ أن لا يتزوج من يحب، وعلى غيرهم أن يستدين، أو يطلّق زوجته، أو يهجر أولاده، أو يعمل في مهنةٍ لا يحبها، أو يعيش في بيئةٍ لا يطيقها، أو يفرض على نفسه التزاماتٍ لا قبل له بها.. إلخ، وذلك كله باسم العقل والاتزان، وهو "الاتزان" الذي ينتهي إلى إيجاد مجتمعٍ متوتر، لا يجد صفاء ذهنياً يمكّنه من تطوير قدراته، وتنظيم ذاته، فلا يخرج فيه قادة عظماء، ولا مخترعون كبار، ولا مفكرون قادرون على إعادة توجيه التاريخ لصالح النهضة والتغيير. فأي اتزان هذا؟!
المجتمعات المتخلّفة، والمسحوقة، التي تتسبب هي ذاتها بمأساتها، لأنها تحرم نفسها حريتها، على الرغم من توافر فرص التغيير بأيديها، هي، في الحقيقة، المختلّة عقلياً، وليس أفرادها الذين يحتّجون على سلب إرادتهم، وانتهاك حريتهم، بطريقةٍ متطرفة، فيقعون في الجريمة في لحظةٍ ينفد فيها صبرهم، ولا يستطيعون متابعة حياةٍ لم يختاروها، فيعلنوا على الملأ أنهم لم يعودوا جزءاً من المعايير القيمية البالية التي تتخذها مجتمعاتهم.
لا تولد الجريمة فجأة. إنها مسؤولية مجتمعية، وبالذات تجاه غير محترفي الإجرام، ولا يجوز أن تظل تهمة "الاختلال العقلي" وسيلةً لتبرئة المجتمع من دوره في صنع الجريمة.