لم ينته حكم العشائر في العراق وأعرافها. وتشير التقارير الأخيرة إلى العودة المستمرة لتلك الأعراف بأشكال مختلفة، لعلّ آخرها الإعلان عن تقديم عشرات النساء كتعويض من عشيرة إلى أخرى بهدف فض نزاع بينهما.
وترزح العوائل المدنية، أو تلك التي لا تنتمي إلى عشائر كبيرة تحميها، تحت طائلة تلك الأعراف، ولا ينجو حتى مسؤولون رسميون منها. ومن ذلك حكم إحدى العشائر على عشيرة أخرى بمبلغ 100 مليون دينار عقوبة على عضو البرلمان، أحمد أبو كلل، الذي لمح إلى زميلته حنان الفتلاوي بعبارة خلال ندوة تلفزيونية على الهواء، اعتبرت أنّ فيها إيحاء جنسياً وطعناً بالشرف.
ولا تقتصر أعراف العشائر التي باتت الحاكم الأول في العراق اليوم على مدن الجنوب، بل باتت السمة السائدة في المحافظات الغربية والشمالية والوسطى. فانتعشت ظاهرة الدواوين والمضايف وقاعات الحكم أو ما يعرف بالفصل. وأخيراً احتدم الجدل بين مثقفي المجتمع العراقي من رجال دين وكتاب وصحافيين وأدباء وخبراء قانونيين وشيوخ عشائر حول تقديم 50 امرأة كتعويض، بعد خلاف مسلح بين عشيرتين في محافظة البصرة (جنوب) أسفر عن قتلى وجرحى بين الطرفين.
الحادثة دفعت بالعديد من الناشطين والناشطات والمدافعين عن حقوق المرأة إلى رفع دعاوى قضائية ضد شيوخ عشائر المحافظات الجنوبية من العراق، مطالبين المحاكم بمعاقبة شيوخ العشائر الذين أقروا التعويض بالنساء. فيما احتدم الجدل بين المؤرخين والباحثين حول أصل هذا التقليد المسمى "الفصلية". وتبين بعد البحث أنَّ تقليد "الفصلية" لا يمت إلى العادات العربية بصِلة حتى في عصر الجاهلية الأولى.
وفي هذا الإطار، يقول المؤرخ مازن عبد الواحد لـ "العربي الجديد إنَّ "تقديم المرأة كفصلية أي تعويض بسبب خلاف دموي عشائري لم يكن موجوداً لدى القبائل العربية. وقد بدأ هذا النوع من التقاليد بالظهور في جنوب العراق في عهد الشاه إسماعيل الصفوي (1487- 1524) الذي أدخل الكثير من العادات والتقاليد الفارسية والهندية إلى جنوب العراق. وينص العرف على أنّ من يرتكب جرم القتل بحق فرد من عشيرة أخرى تؤخذ نساؤه ليعملن عند أهل المقتول، ولهؤلاء الحرية في أن يعملوا بهن ما يشاؤون".
اقرأ أيضاً: العراقيات لا يبحن بتعرضهنّ للتحرّش
ويقف رجال الدين والمثقفون عاجزين أمام هذه الظاهرة التي تمتهن كرامة المرأة والمجتمع، فهم بحاجة إلى سلطة قوية تردع من يروج ويتبع مثل هذه العادات والتقاليد التي يصفونها بالدخيلة على المجتمع العربي. فالسلطة الحقيقية على الأرض هي للعشائر بسبب هشاشة القانون، فيما يرى نشطاء أن رجال الدين مقصرون في توعية المجتمع بهذا الاتجاه.
ويوضح رجل الدين مصطفى الحسني أنَّ "رجال الدين ومثقفي المجتمع عاجزون بصراحة أمام هذا التخلف الكبير بين العشائر والعادات والتقاليد التي لا يقرها دين أو عقل. لكن على المراجع الدينية الكبيرة أن تصدر فتوى عامة تحرم فيها هذه العادات والتقاليد المخزية وأولها الفصلية".
وكان القانون العراقي السائد قبل احتلال البلاد عام 2003، ورقمه 34 ينص على تجريم عقد أي محاكمات عشائرية تنتج عنها أعمال أخذ ثأر بالقتل أو دفع مال أو مقايضة نساء. ويعاقب المتورط المخالف بالسجن مدة لا تقل عن 20 عاماً ولا تزيد على 30 عاماً، وفي حالات محددة يصل الحكم إلى الإعدام. وهو ما أدى الى نسيان العراقيين تلك الأعراف أو الأحكام العشائرية طوال 35 عاماً سبقت عام 2003.
من جهته، قال المتحدث باسم مجلس أعيان البصرة، الشيخ محمد الزيداوي، تعليقاً على الحادثة الأخيرة: "هذا الفعل منافٍ للأخلاق والشرائع السماوية، ونحن نحمّل رئيس الوزراء والحكومتين المركزية والمحلية، والقيادات الأمنية، مسؤولية هذا الانتهاك الصارخ في حق الإنسانية والمتمثل في جعل المرأة فداءً وثمناً".
وهو ما ذهبت إليه عضوة مجلس محافظة البصرة نجلاء التميمي التي قالت: "على الرجل أن يسلم نفسه أو يخسر داره وكل ما يملك للحفاظ على ابنته، ولا يهدر قيمتها أو يجعلها ضحية أو فصلاً لمثل هذه الخلافات العشائرية، فهذا التصرف معيب ومخز ومخجل جداً".
ومع أنّ عرف الفصلية يختص بعشائر جنوب العراق فقط، فإنّ هناك عرفاً آخر لدى عشائر الوسط يتمثل بأخذ ثأر القتيل "مربع" أي بقتل أربعة رجال من أبناء إحدى العشائر. والمشكلة لا تكمن في هذا فقط بل في أنَّ الثأر قد يؤخذ من شقيق المقتول أو والده أو أحد أبناء عمومته ممن لا ذنب لهم، فيما يبقى الجاني إمّا هارباً أو في السجن الذي لا يمنع الثأر العشائري، بحسب ما يكشفه لـ "العربي الجديد" الباحث في شؤون العشائر العراقية باسم السالم.
ويعزو مراقبون السبب في تسلط العشيرة، بدلاً من القانون على المجتمع العراقي إلى الاحتلال الأميركي الذي تسبب في تغييب القانون عن المجتمع حتى اليوم. فالاحتلال منح شيوخ العشائر سلطات واسعة، وشكل لهم مجالس عشائرية في كل قضاء وناحية، بهدف استمالتهم لمحاربة المقاومة العراقية آنذاك، بحسب المراقبين.
ويقول الباحث في الشأن العراقي ياسين العبيدي لـ "العربي الجديد: "عدد من يحملون لقب شيخ عشيرة في العراق ازداد بشكل غير معقول بعد عام 2003 بسبب تشكيل القوات الأميركية المحتلة لمجالس شيوخ عشائر، ومنحها لهؤلاء هويات خاصة تسمح لهم بحمل السلاح وصلاحيات أخرى؛ ما جعل سلطة العشيرة هي الأعلى. وكان هدف الأميركيين من ذلك استمالة شيوخ العشائر، واستغلال قوة عشائرهم لمحاربة المقاومة. ونجحت في استمالة العديد منهم".
ويوضح العبيدي أنّه "لا بد من سحب الهويات الخاصة بعشرات، وربما المئات ممن يحملون لقب شيخ، وتجريدهم من هذا اللقب الذي أصبح يباع ويشترى لدى المزورين والأحزاب السياسية بمبلغ من المال".
في المقابل، يقول المحامي عادل جاسم لـ "العربي الجديد" إنّ "عشرات الناشطين والناشطات والمدافعات عن حقوق المرأة والكتاب والباحثين سيرفعون دعاوى قضائية ضد شيوخ عشائر الجنوب، بسبب حادثة التعويض بالنساء الأخيرة في البصرة". ويضيف: "لا بد من معاقبة شيوخ العشائر حتى تعود هيبة الدولة وهيبة القانون، ويشعر المواطن العراقي أنه في مأمن وليس في غابة".
اقرأ أيضاً: نساء الموصل يعشن أحلك الظروف في سجن كبير