ما حدث في الأقصى عام 2000 كان مجزرة ثانية، أعقبت مجزرة أولى في ذات المكان وقعت في الثامن من أكتوبر العام 1990، ووصفت حينها بالدموية، حيث قتل 22 فلسطينياً وجرح أكثر من ألف مصل غطت دماؤهم باحات المسجد، وكانت سبباً في اندلاع موجة عارمة من الغضب امتد لهيبها إلى سائر الأراضي الفلسطينية، بما فيها مناطق فلسطين المحتلة عام 1948 التي قدمت شهداء في ذلك اليوم المشهود. وكان من مقدمات المجزرة محاولات جماعة "أمناء جبل الهيكل"، إدخال ما يسمى "حجر الأساس للهيكل المزعوم"، حيث حمل أتباع هذه الجماعة حجرهم وأقاموا له طقوس غسل خاصة في عين ماء سلوان جنوب المسجد الأقصى، بعد أن سيطروا على عين الماء وحولوها إلى منطقة جذب سياحي، ومن هناك حملوه نحو الأقصى الذي كان يزدحم بآلاف المصلين، لتنفجر موجة غضب عارمة أعقبت صلاة الجمعة في حينه، فيما اقتحم مئات الجنود ساحات الأقصى ودارت مواجهات عنيفة وسط إطلاق كثيف للرصاص الحي والمطاطي وقنابل الغاز والصوت التي طاولت أروقة المسجد ومنشآته، بما في ذلك مسجد الصخرة المشرفة الذي تضررت زخارفه من الرصاص، فيما كان الشهداء يرتقون تباعاً.
كان يوما مشهوداً وعظيماً ودامياً كما يقول أحد حراس المسجد الأقصى في حينه، ويدعى حسن أبو زنيد، والذي لم يسلم من اعتداء جنود الاحتلال وهو يحاول وزملاءه من الحراس عبثاً منع الجنود من اقتحام مسجد الصخرة المشرفة والاعتداء على النساء فيه. ويقول أبو زنيد "بذلنا كل جهدنا حتى لا يقتحموا الأقصى، اعتدوا علينا بالهراوات، ولم يرحموا أحداً. أصبت أنا وخالد السيوري وناصر قوس والكثير من الشباب، سواء من الحراس أو المواطنين". وكان حارس الأقصى أبو زنيد أحبط في مستهل ثمانينيات القرن الماضي، محاولة لتفجير المسجد الأقصى خطط لتنفيذها التنظيم الإرهابي اليهودي بزعامة يهودا عتصيوني، وهو ذات التنظيم المسؤول عن سلسلة محاولات لاغتيال رؤساء بلديات نابلس ورام الله والبيرة في الضفة الغربية، لكن الذي خطط لتنفيذ عملية النسف والتفجير هو يويئل ليرنر، أحد ناشطي حركة "كاخ" الذي جرى اعتقاله لاحقاً. ويقول أبو زنيد "كنت في دورية حراسة ومناوبة، حين لاحظت حركة غريبة قرب الجدار الشرقي لسور المسجد الأقصى من ناحية باب الرحمة، فتوجهت إلى المكان وصعدت على السور، فإذ بعدد من الإرهابيين اليهود يحاولون التسلق وبحوزتهم حقائب تبين أنها تحتوي على متفجرات". وأبلغ أبو زنيد على الفور مسؤولي الأوقاف الذين حضروا إلى المنطقة، ثم ما لبثت أن حضرت قوات كبيرة من شرطة الاحتلال واعتقلت المتورطين في المحاولة وصادرت الحقائب، ليتبين أن الحديث كان يشير إلى مؤامرة كبرى لتفجير مسجدي الأقصى والصخرة وقد جرى إحباطها بفضل يقظة المسؤولين عن المسجد.
بيد أن مجزرة الأقصى الأولى التي توافق ذكراها السادسة والعشرين اليوم، سبقها على مدى حوالى عشرة أعوام قائمة طويلة من الاعتداءات الدموية ضد الأقصى وحراسه، كان أشهرها استشهاد حارسين برصاص متطرف يهودي كان قد اقتحم الباحات وأطلق الرصاص عليهما قبل أن يتم اعتقاله، فيما اعتقلت شرطة الاحتلال في العاشر من مارس/آذار العام 1983، 40 متطرفاً يهودياً بتهمة التخطيط لدخول المسجد بالقوة. وكشف في حينه عن محاولة أربعة من المتطرفين المسلحين اقتحام الممر الأرضي المعروف بإسطبلات الملك سليمان. وفي التاريخ ذاته ألقي القبض على مجموعة يهودية متطرفة من مستوطني "كريات أربع" وطلاب مدرستها الدينية، وهم أعضاء في حركة "كاخ" بزعامة مئير كهانا، حاولت في الليل اقتحام المسجد من طرفه الجنوبي والاستيطان فيه، وكان بعض أفراد المجموعة مدججين بالسلاح ويرتدون الزي العسكري الإسرائيلي، ويحملون معاول وأكياسا مملوءة. وكانوا مزودين بأسلحة رشاشة يستخدمها الجيش الإسرائيلي من طراز "عوزي" وبنادق من طراز "إم 16" ومسدسات.
ويقول القيادي في حركة "فتح"، حاتم عبد القادر، والذي كان في حينه يعمل مدير تحرير في صحيفة "الفجر" المقدسية التي أغلقت في يوليو/تموز العام 1993، إن التحذيرات من ارتكاب مجزرة دموية في الأقصى سبقت المجزرة الشهيرة في العام 1990. ويضيف "كان مراسلونا يتابعون عن كثب تطورات ما يجري من اقتحامات فردية واعتداءات على الأقصى والمصلين فيه، خاصة من قبل أمناء جبل الهيكل التي كان يرأسها آنذاك الحاخام المتطرف غرشون سلمون، وهو ذاته الذي تسبب في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول العام 1990 بمجزرة الأقصى، بعد أن أعلن اعتزامه إدخال حجر الأساس إلى الأقصى لبناء الهيكل". "في اليوم الذي وقعت فيه المجزرة"، يقول عبد القادر، "كنا نمارس عملنا في الصحيفة، وكان المراسلون في القدس، ومنهم الزميلان خالد أبو عكر ومحمد عبد ربه، يستعدون للانطلاق لتغطية ميدانية لمسيرات "أمناء جبل الهيكل"، حين بدأ صوت الرصاص يعلو في سماء القدس، وكان ذلك مؤشراً على أن شيئاً ما يحدث في الأقصى، خاصة مع ارتفاع نداءات الاستغاثة من مكبراته، فاندفع الجميع إلى هناك، وكنا نرى كيف تركت الناس أعمالها، وحتى المقاهي فرغت من روادها، لتتجه نحو الأقصى وتدافع عنه".
وكانت شوارع البلدة القديمة من القدس تزدحم بالمواطنين الفلسطينيين بينما أغلق التجار محالهم، في حين كانت أبواب المسجد تشهد حضوراً كبيراً للمواطنين، الذين تعرضوا، خاصة عند باب الغوانمة، لإطلاق رصاص مطاطي وقنابل الغاز من هليكوبتر، ورغم ذلك دخل عشرات المواطنين إلى الساحات التي كانت تشهد مواجهات عنيفة، وكان يمكنك رؤية الدماء والشهداء والجرحى في أماكن عدة، بينهم شبان يافعون ونساء وكبار في السن، من كل أنحاء الوطن. ويقول الشيخ عكرمة صبري، رئيس الهيئة الإسلامية العليا حالياً وكان في حينه مديراً للمسجد الأقصى، "كنا نحاول عبثاً منع جنود الاحتلال من مواصلة إطلاق الرصاص الحي. وبينما نحن منشغلون بنقل الشهداء وإسعاف الجرحى واصلوا القتل، حتى ارتقى في ذلك اليوم 22 شهيداً، وجرح المئات. ولم يسلم من تواجد في الساحات، حتى الشيوخ ومسؤولو الأوقاف، من اعتداء جنود الاحتلال، سواء بالغاز المسيل للدموع أو بالهراوات". ويضيف "ما أشبه اليوم بالأمس، بل إن الأخطار على الأقصى تزداد يومياً، ولم يكن مستغرباً أن تقترف قوات الاحتلال مجزرة ثانية في 29 سبتمبر العام 2000، بينما نوشك في هذه الأيام على ما هو أخطر من المجزرتين الأولى والثانية".
بالنسبة لوائل الزغير، أحد جرحى مجزرة الأقصى الأولى، والتي تسببت له بضرر كبير في إحدى يديه، لا تزال أحداث ذلك اليوم حاضرة في ذاكرته، حيث أصاب رصاص جنود الاحتلال يده اليمنى، وكاد أن يفقد حياته. يقول "كنت مع من شارك من المصلين في نقل الجرحى إلى طواقم وسيارات الإسعاف، في تلك الأثناء، وبينما كنا نحاول رفع الشهيد جادو زاهدة، من سكان حي الزعيم، عن الأرض أصبت بيدي بعيار ناري، بينما تعرض مواطن معي لشظية قنبلة صوتية مزقت كتفه، وبالكاد نجونا ونحن نتلقى الضرب بالهراوات من قبل الجنود الذين تصرفوا بعنف ووحشية".