وفيما شهدت دمشق منذ أواخر سنة 2011، والسنوات القليلة بعدها، بعض مظاهر الفلتان الأمني، كعمليات خطفٍ لأشخاصٍ من عائلاتٍ ثرية، وكثافةً في ظهور المليشيات المُسلحة في الشوارع، إلا أنّ العاصمة السورية عموماً لم تشهد فلتاناً أمنياً بمعناه الواسع والشامل، طيلة السنوات السبع الفائتة. أما اليوم، فقد زال "خطر" المعارضة المسلحة بالنسبة للنظام من كل محيط دمشق، أكان من جنوب العاصمة أو من الغوطتين ومنطقة وادي بردى والأرياف الممتدة من الزبداني إلى حدود محافظات حمص والسويداء والحدود اللبنانية، لترتاح أجهزة النظام نسبياً وليخف عدد الحواجز الأمنية التي ظلّت لسنوات تقسم العاصمة إلى أحياء وشوارع منفصلة بالكامل عن بعضها البعض، على شاكلة مربعات أمنية، مع رواج الاعتقالات والتحقيقات والاعتداءات على هذه الحواجز. وحالياً، يمكن القول إن النظام بجيشه الرسمي وأجهزته الأمنية التي يفوق عددها الـ17، استعاد السيطرة من المليشيات الموالية، أكانت محلية أو أجنبية، على الأمن في الحدود الإدارية لدمشق، وهو ما انعكس زوالاً لعدد كبير جداً من الحواجز الأمنية التي كانت منتشرة سابقاً داخل المدينة، لتبقى المليشيات، ومن بينها "حزب الله" اللبناني و"لجان الدفاع الوطني" و"كتائب البعث" السوريتين، موجودة بقوة في الأرياف، بمكاتب وحواجز مستقلة حيناً، ومشتركة مع النظام حيناً آخر، علماً أن "حزب الله" لا يزال موجوداً مباشرة في منطقة السيدة زينب، وفي مناطق من ريف دمشق الغربي، كالزبداني وسرغايا ومضايا ووادي بردى، القريبة من الحدود اللبنانية، والتي تعتبر المدخل إلى منطقة نفوذ حزب الله في البقاع اللبناني.
هذا في الخريطة العامة لتوزع مهام الضبط الأمني بين النظام وأجهزته من جهة، والمليشيات المحلية والأجنبية الموالية لنظام الأسد من جهة ثانية. أما في التعاطي الأمني مع المواطنين، فهو لا يزال قائماً بطبيعة الحال على القبضة الحديدية والمراقبة والاعتقالات على الشبهة والتخابر والتنصت، مع سلّم أولويات مختلف عما كان عليه الوضع قبل الثورة، إذ يصدف أن تغض الأجهزة الأمنية النظر عن معارضين مثقفين لا يزالون يقيمون في دمشق لعلمها أنهم لا يشكلون خطراً مباشراً لجهة احتمال تعبئتهم الشارع مثلاً، أو تكوين رأي عام معارض، في حين تكون الأولوية لمراقبة الأحياء الشعبية المعروفة باحتضانها حالة معارضة حقيقية، مثل حي الميدان الشهير بتظاهراته عامي 2011 و2012، والجامعات، في ظل عناية كبيرة بعدم استفزاز أوساط مذهبية تصنف في خانة "الأقليات" في ظل استمرار حرص النظام على الإيحاء للعالم زوراً بأنه حامي تلك المجموعات الدينية، من دروز أو مسيحيين مثلاً.
ويُمكن التمييز بين ثلاثة مستويات لتعامل النظام مع الحالة الأمنية في مدينة دمشق:
الأول، مع بدء التظاهرات في أحياءٍ عدة بدمشق، منذ الربع الثاني من سنة 2011. إذ كانت التظاهرات تحصل بشكل مركّز بعد ظهر يوم الجمعة من كل أسبوع، وهو ما دفع أجهزة أمن النظام إلى الانتشار بشكل كثيف في المناطق التي كان يتوقّع خروج تظاهرات فيها، من خلال المعرفة المُسبقة بالمناخ الشعبي لكل منطقة. كذلك عمدت أجهزة النظام إلى استحداث أماكن لتجمعات مركزية (معرض دمشق القديم مثلاً) لعشرات الدوريات والحافلات المخصصة لنقل عناصر الأمن، بحيث تضمن لهم سرعة الوصول نحو أي منطقة تَرِدُ منها معلومات عن خروج تظاهرة.
المستوى الثاني، كان بحلول نهاية سنة 2011، وبداية 2012، مع تزايد كثافة عدد ونقاط التظاهرات والمتظاهرين، وظهور السلاح لـ"حماية التظاهرات"، وصولاً لمنتصف سنة 2012، إذ لم يعد استنفار دوريات الأمن يقتصر على يوم الجمعة، وأصبحت تُشاهد يومياً في الأحياء التي تشهد نشاطاً ضدّ النظام السوري، خصوصاً بعد شهر يوليو/ تموز من العام 2012، الذي شهد تفجير "خلية إدارة الأزمة" (طاول مبنى الأمن القومي في العاصمة دمشق، وقتل على أثره كبار الشخصيات في النظام السوري)، بالتزامن مع زيادة حركة الفصائل المسلحة التي تتبع للمعارضة في أحياءٍ على أطراف دمشق.
أما المستوى الثالث، فظهر بعد يوليو/ تموز 2012، الذي انتهت فيه فعلياً النشاطات السلمية للمعارضة في دمشق، بعد وأد الحراك السلمي هناك، وظهور دبابات قوات النظام في شوارع العاصمة، وإعادة الحالة الأمنية للضبط عبر نشر عشرات الحواجز وسط دمشق وعلى أطرافها، ضمن الحدود الإدارية لمحافظة دمشق. مع العلم أن الأرياف الشرقية والغربية لدمشق، كانت قد بدأت بالخروج تباعاً من سيطرة النظام، وبقيت تشهد مراحل هدوء وعمليات عسكرية، حتى إبريل/ نيسان 2018، عندما خضعت بكاملها لسلطة النظام السوري.
ومنذ بداية الثورة السورية، قسّم النظام دمشق إلى مربعات أمنية، حيث تقاسمت مختلف فروع الاستخبارات أحياء المدينة أيام الاحتجاجات السلمية، فتسلّم الأمن العسكري أحياء دمر والهامة والمزة وكفرسوسة، بالإضافة لأجزاء واسعة من دمشق القديمة، فيما كانت أحياء برزة والقابون وجوبر من نصيب الاستخبارات الجوية. وكانت أحياء الصالحية والشيخ محيي الدين والمهاجرين والأحياء القريبة منها، من مهام فرعي "الخطيب" والأمن الداخلي بمنطقة الجسر الأبيض. أمّا مناطق جنوب العاصمة، ابتداءً من أحياء الميدان والقدم والعسالي والمناطق المحيطة، فكانت من اختصاص ما يُعرف بـ"فرع فلسطين".
وبقي هذا التقسيم قائماً طيلة السنوات السبع الماضية، وهو مستمر إلى الآن. ومع كل المراحل التي مرت بها العاصمة السورية، كانت هذه الأفرع هي التي تضبط الحالة الأمنية، كل فرع في قطاعه. وحتى المليشيات التي بدأت من "لجان شعبية" وتوسّعت شيئاً فشيئاً، كانت تعمل بالتنسيق مع الفرع الأمني الذي يتولى الإشراف على المنطقة التي تنشط فيها هذه اللجان.
وقد تنامى دور المليشيات المسلحة، مثل "اللجان الشعبية"، و"الدفاع الوطني"، و"كتائب البعث"، وغيرها من المليشيات تحت مسميات مختلفة، بشكل لافت، مع بدء النظام بتقديم الدعم لها بالسلاح والعتاد، لتقود بدورها بالتنسيق مع الفرع الأمني المختص، عمليات ضبط الأمن في الأحياء التي تنشط فيها، مقدمةً تقارير دورية عن كل صغيرة وكبيرة تحصل للفرع الذي تعمل تحت كنفه.
ومنذ النصف الثاني من سنة 2012، بدأت الأفرع الأمنية بمسحٍ شبه شامل لكافة أحياء دمشق، بحيث أجرت دراسات أمنية للعائلات القاطنة في هذه الأحياء، مع التركيز على شريحة الشباب، وباتت تشترط على الراغبين باستئجار منزل في العاصمة الحصول على إذن أمني قبل القيام بذلك، وهو الإجراء الذي فرض أيضاً من أصحاب المنازل الذين يعرضون منازلهم للإيجار. وانسحبت الصورة نفسها، ولكن بضبطٍ أمني أقل، على أرياف دمشق التي بقيت طيلة السنوات السبع الفائتة تحت سيطرة النظام فعلياً.
أمّا في الأرياف التي خرجت عن سيطرة النظام، منذ سنة 2012 وبعدها، مثل الغوطة الشرقية وبعض بلدات الغوطة الغربية، قبل أن تعود بالكامل تدريجياً لسلطة النظام، فقد أسست الفصائل المُسيطرة فيها، كـ"جيش الإسلام"، و"فيلق الرحمن"، جهازاً أمنياً لضبط الحالة الأمنية. لكن حروب هذه الفصائل مع النظام من جهة، ومعاركها الداخلية في ما بينها من جهة أخرى، إضافة إلى ظروف الحصار الذي فرضه النظام على مناطقها، وما أفرزه من مشاكل مجتمعية، كلها عوامل جعلت الحالة الأمنية في المناطق التي سيطرت عليها المعارضة السورية هشة.
وبعد سيطرة النظام السوري على المناطق التي كانت خارج دائرة نفوذه، عبر المعارك، أو ما سُمي بـ"المصالحات"، بات سكان هذه المناطق، ممن فضلوا البقاء فيها على الخروج نحو محافظة إدلب، معقل المعارضة حالياً، باتوا يعيشون تحت ضغط أمني من قبل سلطات النظام التي تلاحق بعضهم بمجرد التواصل مع ذويهم في الشمال السوري، كتهمة يعاقبون عليها. وقد توسّع العقاب عبر تغاضي النظام كذلك عن السرقات التي مارسها عناصره بحق ممتلكات من تم تهجيرهم بموجب المصالحات إلى الشمال السوري، فيما يتمّ غضّ الطرف اليوم عن الانتهاكات التي ترتكب بحقّ سكان تلك المناطق الذين لا يمتلكون حق الاعتراض، كون تهمة الخيانة العظمى جاهزة بشكل دائم، ولا يستطيعون فعل شيء حيالها. وفي ظلّ كل ذلك، يعيش سكان المناطق التي كانت تحت نفوذ المعارضة كمواطنين من الدرجة الثانية، بحيث لا يمتلكون حتى حقّ المطالبة بحقوقهم، فيما يتوجّب عليهم الخضوع الدائم للابتزاز من قبل كل العناصر المحسوبة على النظام ومليشياته.