بعد مرور أسبوع على اعتداءات العاصمة الفرنسية باريس، التي شغلت العالم بكامله، وهزت أمن الدول الأوروبية ودفعتها إلى اتخاذ إجراءات أمنية غير مسبوقة، نجح إرهابيون مسلحون في توجيه الأنظار إلى مالي، مع شنّهم هجوماً أمس الجمعة على فندق "راديسون بلو" في قلب العاصمة المالية باماكو، والذي كان ينزل فيه عشرات الأجانب من جنسيات مختلفة، وخصوصاً طواقم شركات الطيران. العملية، التي أسفرت في بدايتها عن نجاح المسلحين في احتجاز أكثر من 170 رهينة، هرب عدد كبير منهم لاحقاً، أدت إلى مقتل 27 شخصاً على الأقل في حصيلة أولية، إضافة إلى أكثر من 20 جريحاً، وتبنّتها جماعة "المرابطون".
خطورة هذا الهجوم دفعت فرنسا والولايات المتحدة الأميركية إلى إرسال قوات خاصة للمشاركة في عملية إنقاذ رهائن احتجزهم المسلحون داخل الفندق، فيما سارع الرئيس المالي، إبراهيم أبو بكر كيتا، إلى قطع زيارته للمشاركة في قمة إقليمية في تشاد والعودة إلى بلاده.
وأظهرت العملية هشاشة الأوضاع الأمنية في مالي، على الرغم من المصالحة الوطنية التي تم إبرامها في يونيو/حزيران الماضي بين الحكومة المالية والمجموعات المسلحة في الشمال، خصوصاً "تنسيقية أزواد" التي تضم مجموعات الطوارق المسلحة. كما أن هذه العملية تعكس قدرة المجموعات المسلحة، التي تنشط عادة في الشمال والمناطق الصحراوية، على القيام بعمليات نوعية في قلب العاصمة واستهداف مواقع يرتادها أجانب، وفرنسيون بشكل خاص. وآخر هذه العمليات كانت في مارس/آذار الماضي، حين هاجمت قوات تابعة لمجموعة "المرابطون"، مطعم "لاتيراس" الذي يرتاده عادة الأوروبيون، والفرنسيون بشكل خاص، مما أسفر عن مقتل خمسة أشخاص بينهم فرنسي وبلجيكي.
اعتداء باماكو أمس الجمعة، بعد أسبوع على اعتداءات باريس يوم الجمعة الماضي، استهدف فندقاً يرتاده الأجانب والفرنسيون بشكل خاص، مما يؤشر إلى احتمال أن يكون هذا الاعتداء صدى لاعتداءات باريس ومبادرة من "الجهاديين" الماليين في إطار الحرب الدائرة بينهم وبين الجيش الفرنسي شمال البلاد، خصوصاً أن الجيش الفرنسي المتمركز في شمال مالي في إطار عملية "برخان" قام في مستهل هذا الشهر بعملية تمشيط واسعة في الشمال، بمحاذاة الحدود الجزائرية، في إطار جهوده لاستئصال الجماعات الجهادية الناشطة في المنطقة.
كما أن سرعة رد فعل الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، في التعليق على العملية وتصريحه بأن "فرنسا ستعمل كل ما في جهدها لتحرير الرهائن في باماكو" ودعوته الفرنسيين في مالي "إلى التزام الحذر" وإرساله على عجل إلى باماكو قوات من النخبة التابعة للدرك الفرنسي المتخصصة في محاربة الإرهاب، ومشاركة ضباط فرنسيين في عملية الهجوم على الفندق لتحرير الرهائن، تعكس تصوّراً شمولياً فرنسياً للحرب على الإرهابيين، أينما تواجدوا، سواء في فرنسا أو مالي أو في سورية أو العراق.
اقرأ أيضاً: "جهاديو" مالي ينهكون فرنسا ويهدّدون اتفاق السلام
وإضافة إلى التنظيمات الجهادية المعروفة، والتي تنشط بشكل خاص في الشمال ضد القوات الفرنسية، ظهر تنظيم جديد في مستهل العام الجاري وتميز عن باقي التنظيمات الأخرى بقدرة عناصره على القيام بهجمات في مدن الوسط، وأيضاً في العاصمة باماكو ومحيطها، ناقلاً المعركة من صحراء وأحراش الشمال المهجورة إلى قلب عاصمة القرار السياسي الآهلة بالسكان والرعايا الأجانب، خصوصاً الفرنسيين منهم. ويتعلق الأمر بـ"جبهة تحرير ماسينا" التي يتزعمها الشيخ الأصولي، أمادو كوفي، الذي استلهم اسم التنظيم من إمارة اسلامية مالية قديمة تدعى "ماسينا" كانت تتواجد في منطقة موبتي في أواسط القرن التاسع عشر، ويتواجد معظم عناصر التنظيم في وسط البلاد في المنطقة المحاذية للحدود مع بوركينا فاسو.
وحسب الاستخبارات المالية، فالتنظيم على تقارب ديني مع تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). وفي تسجيل صوتي كان كوفي قد بعثه إلى بعض وسائل الإعلام المالية المحلية، توعد هذا الأخير فرنسا بعمليات جهادية ضد مصالحها في الأراضي المالية، كما وعد مناصريه بإحياء الخلافة في منطقة موبتي.
ولتنظيم "جبهة تحرير ماسينا" علاقات مع بعض التنظيمات الجهادية في شمال مالي، مثل "المرابطون" التي يقودها الجهادي الجزائري الشهير، مختار بلمختار (الذي لم يُعرف مصيره بعد أنباء عن مقتله أخيراً)، وتنظيم "أنصار الدين" الذي يقوده الطوارقي إياد آغ غالي. إلا أن كوفي ينسق عملياته الجهادية بشكل خاص مع جهادي آخر، هو قائد تنظيم "كتيبة خالد بن الوليد"، سليمان كيتا، الذي ينحدر من جنوب مالي. وتعود الصداقة بين الرجلين إلى فترة "الزحف الجهادي" على شمال مالي عام 2012، وقاتلا سوية القوات الحكومية إلى جانب إياد أمير "أنصار الدين".
وقام تنظيم "جبهة تحرير ماسينا" بتكثيف هجماته منذ الصيف الماضي في عمليات استهدفت عناصر بعثة الأمم المتحدة في مالي، "مينوسما"، وثكنات الجيش ومراكز الشرطة المالية في وسط البلاد، وخصوصاً مدن نامبالا وتينينكو وبولكيسي ودوغوفري. كما أن أحد المقربين من كوفي هو من تبنى العملية الدموية، التي استهدفت فندق بيبلوس في مدينة سيفاري، وأسفرت عن مقتل 13 شخصاً بينهم عدة موظفين في شركة متعاونة مع بعثة "مينوسما". كما أن التنظيم برهن عن قدرته على التحرك في عمق العاصمة باماكو ومحيطها، إذ قام في مستهل سبتمبر/أيلول الماضي بمهاجمة مراكز للشرطة ومنزلاً لموظف في بعثة الأمم المتحدة. وآخر عملية تبناها كوفي كانت في 19 سبتمبر/أيلول الماضي حين قام مسلحون من تنظيمه بقتل شرطيين ومدنيين، في هجوم استهدف مدينة بيه في وسط البلاد.
اعتداء باماكو بتوقيته الدقيق يذكّر بأن فرنسا التي أعلنت الأسبوع الماضي الحرب على إرهاب تنظيم "داعش" في سورية والعراق، هي منخرطة أيضاً منذ يناير/كانون الثاني 2013 في حرب استنزافية ضد الجهاديين الإسلاميين في شمال مالي ومنطقة الساحل، ويشارك فيها أكثر من ثلاثة آلاف جندي وهي حرب عصابات استنزافية شرسة لم تربحها فرنسا حتى الساعة، بل إن التنظيمات الجهادية باتت تتحدى فرنسا وتنسّق بنجاعة بينها، وتنقل الحرب من الصحراء إلى قلب العاصمة مقر الحكومة وحيث تتواجد جالية فرنسية كبيرة، وأيضاً القيادة العسكرية الفرنسية لعملية "برخان".
اقرأ أيضاً: مخاوف فرنسية من الانتصارات العسكرية في مالي