الإعلام العمومي والانتقال الديمقراطي عربياً
يبدو أن المنافسة الإعلامية الشرسة، مع التزايد السريع والمتتابع للفضائيات، جعلت المشاهد العربي أمام عدة اختيارات، من دون أن يخضع لتوجيه أو رقابة، وهو ما يقوي مصداقية وشرعية تطبيق مخطط إصلاحي مدروس، يستند إلى أهداف واضحة ودقيقة، لتحصين هذا المشاهد من الاختراقات الفكرية والمذهبية المحرضة والمشجعة على الغلو والانغلاق والاحتراب العقائدي.
المؤكد أن الحقل السياسي في دول عربية شهدت، وتشهد، رجّات وديناميات متفاوتة النتائج، بات يواجه جملة من التحديات، أقلها محدودية المشاركة السياسية وانتشار رقعة العزوف الانتخابي. وأمام هذه المظاهر غير المشجعة على استتباب الديمقراطية واستقرار المؤسسات، ظهرت اجتهادات كثيرة، لفهم الظاهرة وتجاوزها، غير أن مجمل تلك الاجتهادات أغفلت مشكلة الإعلام والتواصل، وقفزت فوق الدور الحيوي المنوط بوسائل الإعلام العمومية في صناعة وتشكيل رأي عام وطني فعال وعقلاني ومبادر.
فحينما يشيح المواطن بوجهه عن رجل السياسة، فإنه يؤكد لا مبالاته بمجمل القضايا الوطنية التي يفترض أن لذلك السياسي "عرضا" بخصوصها، يقدمه للمواطنين، فضلا عن أزمة القراءة التي أصبحت تشكل معضلة حقيقية، تهدد المجتمعات العربية باجتثاث قيم التفكير العلمي والنقاش العقلاني والإبداع الحر، بما في ذلك الصحافة المكتوبة، حيث أضحت الأخيرة تعاني من مشكلات بنيوية، تؤثر قطعا على مضمونها، مضمون أصبحت فيه هوامش السياسة وأخبار الجرائم والمواضيع التي تنطوي على جرعة عالية من الإثارة، تتصدر الصفحات الأولى للجرائد، بشكل يدفع المواطنين إلى مزيد من النفور من العمل السياسي، ومن التعاطي الإيجابي مع الصحافة المكتوبة، ومع فعل القراءة، باعتباره سلوكاً حضارياً ومدنياً راقياً، علاوة على غياب سيولة المعلومة والتدهور، بين حين وآخر، لحرية التعبير. وهذه كلها عوامل تؤدي إلى تسطيح النقاش العمومي على صفحات الجرائد، في الوقت الذي يلاحظ فيه أن معظم القنوات والإذاعات العمومية في المنطقة العربية تحرص على الحفاظ على الطابع الرسمي، ما يحول دون تقديمها خدمة عمومية، واستحالة اكتسابها صفة المرفق العمومي، فهي تعنى بما هو رسمي بشكل مفرط على حساب القرب من المواطنين. أما التلفزيونات والإذاعات الخاصة، فيبدو أن الهواجس التجارية فرضت عليها الابتعاد عن قضايا السياسة والمجال العمومي لحساب الترفيه. وفي أحسن الأحوال، انخراطها في نمط إعلامي هجين بدون هوية وقابل للتغير والتحول، حسب السياقات وموازين القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
هذه الأحكام نسبية وغير مطلقة. لكن، تتقاسمها مكونات عديدة في المجتمع العربي، خصوصاً الطبقة السياسية والنخب الثقافية والنسيج المدني الفاعل، وقد لا ترقى إلى مستوى الدراسات والإحصائيات العلمية الدقيقة، وهو ما يحتم التفكير في إنجاز استطلاعات للرأي في الموضوع، غير أن مجريات الأحداث تؤكد هذه الأحكام، كلما طفا على السطح موضوع من مواضيع النقاش والسجال العمومي، حيث تخدم بعض وسائل الإعلام الخاصة جهات على حساب أخرى، والقنوات والإذاعات الرسمية، إذا لم تحشر أنفها في موضوع يمتلك راهنيته وطراوته، فإنها تتغاضى عن الأمر بشكل نهائي، اللهم إلا ما تعلق بعكس وجهة النظر "الرسمية".
وهذا ما يبرر بقوة الحاجة الملحّة لإعلام سمعي بصري عمومي في الدول العربية ينصبّ على جوهر السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع. إعلام يخاطب ضمير المواطن المعرض لأخطر أنواع الاستلاب في ظل طغيان قيم الشعبوية واللاعقلانية والتهريب الديني والروحي والهوياتي. كما هو الشأن بالنسبة لمجموعة غير هينة من القنوات الفضائية التي تسوق خطاباتٍ لا تنتمي مطلقاً إلى القرن الواحد والعشرين، ولا تعكس القيم المتنورة والمشرقة التي أثثت الحضارة والثقافة العربية والإسلامية، بما في ذلك الاجتهاد الديني والفكر المقاصدي، خصوصاً أن هذه القنوات تولت مهمة صناعة وصياغة جزء من الرأي العام العربي والإسلامي.
في ظل هذا المشهد الملتبس، تبدو الضرورة عاجلة لقنوات تتمتع بقدر أوسع من هامش الحرية والمبادرة والإبداع والاستقلالية. هناك طبعا مخاوف أمنية من حرية التعبير، لكنها تتناقض مع المبادئ والتطلعات الديمقراطية المشروعة التي تراود عدداً من المجتمعات في منطقتنا. وبعض الانزلاقات المهنية لا ينبغي أن تتحول إلى مبرر لتسويغ هذه المخاوف التي تنطوي على مخاطر كبرى. ذلك أن قمع الحرية بمبررات أمنية يعني عدم الصراحة وعدم الثقة واستمرار المشكلات نفسها التي أدت إلى العزوف الإعلامي والثقافي والسياسي، مع ما يتضمنه ذلك من احتمالات عدم الاستقرار في ظل تنامي الشعبوية والتطرف والانغلاق واستمرار الفقر وعدم تكافؤ الفرص وسوء توزيع الثروة.
ليس هناك أفضل من قنوات تلفزيونية وإذاعات عمومية، تركز مضمونها على مشكلات الوطن والمواطنين، وتفتح نقاشاً حولها، بهدف تجاوزها، وتعبئة المواطنين للانخراط في العمل السياسي والثقافي والمدني والرفع من مستوى الوعي العمومي بمهنية، واستناداً إلى منهجية بيداغوجية تعليمية. يتعلق الأمر بتقليص حجم السياسة بمعناها التقليدي "الأشخاص والمؤسسات الحزبية والكواليس"، لصالح السياسة بمعناها الخدماتي، أي ترجيح الخيار التنموي وتحديات الانتقال الديمقراطي ومشاريع الحكومات وملاحظات الكتل البرلمانية وخروق حقوق الإنسان، وتسيير المؤسسات العمومية والسياسات الاقتصادية والمالية للدولة وعلاقاتها الخارجية، حيث لا يمكن للمواطن أن يبدي أدنى اهتمام بالسياسة والسياسات العمومية والانشغال بالقضايا الوطنية والدولية، إلا إذا أحس، بالفعل، أن حياته اليومية تتجلى، حتماً، في ما يصدر عن فضاءات البرلمان والحكومة والمجالس المنتخبة ومؤسسات الدولة من قرارات وما يسبقها من نقاشات ومداولات.
وبرصد التداعيات السياسية والإعلامية والثقافية والسوسيولوجية للحالتين، التونسية والمصرية، يلاحظ أنهما أنتجتا تأثيرات عديدة على التلفزات الوطنية الرسمية، وحتى الخاصة المملوكة لشركات بعض رجال الأعمال في البلدين.
وأدت هاتان الحالتان إلى تراجع تأثير فضائيات إخبارية عربية كانت تتمتع بنسبة مشاهدة عالية، ما يعزى إلى تنامي الطلب على برامج النقاش السياسي لدى قطاعات واسعة، ورغبتها في مشاهدة الجدالات والسجالات بشأن قضايا المرحلة الانتقالية. ولاشك أن الغموض الذي اكتنف المراحل الانتقالية، والاحتقانات والانفلاتات التي صاحبتها، وكيفية تدبير الشأن العام، وغياب الرؤية الواضحة للبرامج والمشاريع الحكومية، دفع قطاعات اجتماعية عريضة في دول كثيرة إلى البحث عن بدائل إعلامية، تمثلت، في جزءٍ منها، في الفضائيات المملوكة لبعض رجال الأعمال بأجندة سياسية، والتي تركز، في برامجها الحوارية ومقابلاتها ونشراتها الإخبارية، على الأوضاع السائدة، سعيا منها، صدقا أو افتراءً، إلى فهم وقائع ما يجري على الساحة السياسية، ومن ثم ازداد حضور هذه القنوات في الحياة اليومية للمواطنين، كما هو الشأن في مصر، حيث أثرت على بعض توجهاتهم، في ظل موجة نقاش سياسي عارم.
بديهي أن ضعف المشهد السياسي وهشاشة الديمقراطية أديا إلى تزايد الطلب الاجتماعي على البرامج الحوارية السياسية والاجتماعية ومتابعة الأخبار والتعليقات، خصوصاً في ظل بنى سياسية، يستعصي عليها الانفتاح، ينضاف إليها تراجع الأداء المهني لقنوات الإعلام الرسمي وإذاعاته، وهو الذي لايزال يخضع لتوجهات السلطة الحاكمة في عدد من الدول العربية.