من يتأمل وسائل الإعلام الفرنسية للسنة التي غادرتنا، سنة 2016، يفاجأ بظاهرتين كبيرتين لفتتا الأنظار وصنعتا الحدث الإعلامي، وهما التنبؤات الخاطئة، ثم الدور الكبير المتعاظم والمؤثّر، أحيانا، للديمقراطية الرقمية.
تنبؤات خاطئة
فشل الإعلام في أوقات كثيرة في قراءة الواقع، مثل الانتخابات الأميركية مثلاً. في فرنسا، نجد واقعاً مشابهاً، تحديداً في الانتخابات الفرعية لليمين والوسط، فلا أحد توقع فوز فرانسوا فيون، ليس في الدورة الثانية لهذه الانتخابات، بل وحتى في الدورة الأولى. وكانت التحليلات والقراءات السياسية تتقاطع لتؤكد أن عمدة بوردو، ألان جوبيه، لا شكّ هو الفائز عن اليمين، وبالتأكيد، أيضاً، هو الفائز، في انتخابات 2017 الرئاسية، حتى تَصْدُق نبوءة جاك شيراك عنه، قبل عقود، عن أنه "الأفضل بيننا".
إيمانويل ماكرون، أيضاً، وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام كانت ترى في بريق عينيه وفي حركاته وفي زلّات لسانه وتصرفات زوجته، ما يكشف طموحاً لديه للوصول إلى أعلى مراتب السياسة، ولكنها كانت تستبقي هذه المغامرة إلى رئاسيات 2022، أي السنة التي تنبّأ فيها الروائي ميشيل ويلبيك بوصول مسلم إلى رئاسة فرنسا، في إحدى رواياته. وإذا بماكرون يُكذّب كل التوقعات ويعلن أن حداثة سنه، مقارنة بمرشحين آخَرين، لا تمنعه أن يأمل في تغيير مصير البلد، وأنه سيفعل ذلك.
ومن كان أيضاً يتصور أن الرئيس الفرنسي الحالي فرانسوا هولاند، سيعلن عدم ترشحه لولاية رئاسية ثانية؟ لقد كانت كل وسائل الإعلام الفرنسية متأكدة من ترشحه، ثانية، وكانت التفاصيل والتكهنات تتعلق فقط، بالطريقة التي سيتم فيها ذلك، هل في إطار انتخابات اليسار الفرعية، أم بشكل مباشر، باعتباره "مرشَّحا طبيعيا"، ودون المرور على أي فلتر إضافي.
لقد أخطأت وسائل الإعلام الفرنسية في أشياء كثيرة، يستحيل عدها والإحاطة بها جميعا، لأن الزمن تغير، ولأنّ ممارسة السلطة لم تعد كما كانت عليه في الماضي.
الديمقراطية الرقمية تصنع الحدث
ونصل هنا إلى بعض القضايا التي ساهمت حملات التوقيعات في إظهارها للرأي العام الفرنسي، أو في إيجاد حلول لها. ولعل أكبر هذه الحملات، في تاريخ فرنسا، تلك المتعلقة بالإعلان الحكومي عن مشروع قانون إصلاح قانون الشغل. وقد انطلقت فكرة رفض مشروع القرار الحكومي عبر إطلاق حملة توقيعات رافضة للمشروع الحكومي، تجاوزت المليون توقيع، بعد أن تبيَّن، لمن وراء معارضة المشروع الحكومي، أن هذا القرار هو ما ينتظره اليمين، منذ زمان، في حين أن اليسار شبه منعدم، عدا بعض "المتمردين" في الحزب الاشتراكي وحزب شيوعي في شبه احتضار.
وفعلا استطاعت حركة "قانون الشغل: لا، شُكراً"، أن تجند الشارع الفرنسي وتبث الروح في الأحزاب الفرنسية المترهلة وفي المجتمع المدني، وخاضت نقاشات حادة، عبّرت عنها تظاهرات عمالية ونقابية عدة، وأيضاً حركة "واقفون، ليلا"، ومنح هذا الحراك السياسي والفكري والأيديولوجي دفعا معنوياً وسياسياً كبيراً لنوّاب يساريين نقلوا دفق الشارع والعمال إلى البرلمان، فاحتدمت النقاشات، ولم يجد رئيس الحكومة السابق مانويل فالس بُدّا من اللجوء إلى قانون 43-9 لمنع أي تصويت قد يُفشل المشروعَ الحكومي. والمضحك المبكي هو أن نفس الشخص، مانويل فالس، وهو الآن، مرشح للانتخابات الفرعية لليسار، يَعتبر هذا القانون غيرَ ديمقراطي ويطالب بإلغائه.
كذلك انطلقت حملة قوية من أجل "منح الجنسية الفرنسية للرماة السنغاليين"، أو ما تبقى منهم على قيد الحياة، "اعترافاً من الحكومة والدولة الفرنسيتين بدور هؤلاء في الدفاع عن فرنسا ومصالحها". هؤلاء الرماة الذين شاركوا في مختلف حروب فرنسا، الكولونيالية وكذلك حروبها ضد النازية.
وقد أطلقت الحملة السيدة عيساتا سيك، من أصول سنغالية، وهي منتخبة في بلدية بوندي، بضاحية باريس القريبة. واستطاعت الحملة أن تحصد توقيعات أكثر من 60 ألف شخص. ولكنها أيضا حصدت ما هو أهم، أي قرار الحكومة الفرنسية، وخصوصا وزارتي قدامى المحاربين، والداخلية، فتح نقاش والبدء في إحصاء هؤلاء "الرماة"، الذين يعيش معظمهم، وهم متقاعدون، في ظروف صعبة وبإمكانات هزيلة، مقارنة مع رفاقهم في السلاح من الفرنسيين.
وكم كانت النتيجة سعيدة، حين وجّه ممثلو هؤلاء "الرماة"، يوم 22 ديسمبر/ كانون الأول 2016 بيان شكر إلى عموم من ساعدهم في مسار اعتراف فرنسا بهم وبجهودهم وتضحياتهم. وأكّد أحد ممثليهم، في رسالة على الفيسبوك، أن "الدولة الفرنسية تعهدت بتسوية أوضاع هؤلاء وبمنحهم الجنسية الفرنسية".
الزمن تغيّر، ولا يمكن أن تُمارس السياسةُ بطرق الماضي، ولعل هذا ما يعزز الديمقراطية ويُقرّب المواطن من دائرة القرار.
تجدر الإشارة إلى أن الإعلام الأميركي شهد تحديات مماثلة في 2016، إذ فشل في تقدير مدى قوة وفاعلية الغضب المؤثر في نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بسبب "إدمان" الإعلام على استطلاعات الرأي التي تنبأت بفوز المرشحة الديمقراطية، هيلاري كلينتون، بالإضافة إلى اعتماده على مصادر مخضرمة رأت قواعد السياسة الأميركية أنها غير قابلة للتغيير، بينما انفصل عن المواطنين الأميركيين العاديين.
وقال الكاتب الأميركي، مايكل غودوين، إن "الإعلام تعامل مع تصرفات ترامب (الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب) الغريبة باعتبارها دليلاً على عدم أهليته، بينما بدا واضحاً أن هذه التصرفات ليست معياراً، على الأقلّ بالنسبة للناخبين في الولايات الأميركية التي حسمت نتائج الانتخابات الأميركية لصالحه". وأضاف غودوين أنه "كان واضحاً أن نظرة الـ63 مليون ناخب الذين صوتوا لصالح ترامب تختلف عن نظرة مراسلي صحيفتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست والمؤسسات الإعلامية الأخرى". علماً أن غودوين يعدّ من مؤيدي ترامب، ويعتبر نفسه "ديمقراطياً محافظاً".
اقــرأ أيضاً
تنبؤات خاطئة
فشل الإعلام في أوقات كثيرة في قراءة الواقع، مثل الانتخابات الأميركية مثلاً. في فرنسا، نجد واقعاً مشابهاً، تحديداً في الانتخابات الفرعية لليمين والوسط، فلا أحد توقع فوز فرانسوا فيون، ليس في الدورة الثانية لهذه الانتخابات، بل وحتى في الدورة الأولى. وكانت التحليلات والقراءات السياسية تتقاطع لتؤكد أن عمدة بوردو، ألان جوبيه، لا شكّ هو الفائز عن اليمين، وبالتأكيد، أيضاً، هو الفائز، في انتخابات 2017 الرئاسية، حتى تَصْدُق نبوءة جاك شيراك عنه، قبل عقود، عن أنه "الأفضل بيننا".
إيمانويل ماكرون، أيضاً، وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام كانت ترى في بريق عينيه وفي حركاته وفي زلّات لسانه وتصرفات زوجته، ما يكشف طموحاً لديه للوصول إلى أعلى مراتب السياسة، ولكنها كانت تستبقي هذه المغامرة إلى رئاسيات 2022، أي السنة التي تنبّأ فيها الروائي ميشيل ويلبيك بوصول مسلم إلى رئاسة فرنسا، في إحدى رواياته. وإذا بماكرون يُكذّب كل التوقعات ويعلن أن حداثة سنه، مقارنة بمرشحين آخَرين، لا تمنعه أن يأمل في تغيير مصير البلد، وأنه سيفعل ذلك.
ومن كان أيضاً يتصور أن الرئيس الفرنسي الحالي فرانسوا هولاند، سيعلن عدم ترشحه لولاية رئاسية ثانية؟ لقد كانت كل وسائل الإعلام الفرنسية متأكدة من ترشحه، ثانية، وكانت التفاصيل والتكهنات تتعلق فقط، بالطريقة التي سيتم فيها ذلك، هل في إطار انتخابات اليسار الفرعية، أم بشكل مباشر، باعتباره "مرشَّحا طبيعيا"، ودون المرور على أي فلتر إضافي.
لقد أخطأت وسائل الإعلام الفرنسية في أشياء كثيرة، يستحيل عدها والإحاطة بها جميعا، لأن الزمن تغير، ولأنّ ممارسة السلطة لم تعد كما كانت عليه في الماضي.
الديمقراطية الرقمية تصنع الحدث
ونصل هنا إلى بعض القضايا التي ساهمت حملات التوقيعات في إظهارها للرأي العام الفرنسي، أو في إيجاد حلول لها. ولعل أكبر هذه الحملات، في تاريخ فرنسا، تلك المتعلقة بالإعلان الحكومي عن مشروع قانون إصلاح قانون الشغل. وقد انطلقت فكرة رفض مشروع القرار الحكومي عبر إطلاق حملة توقيعات رافضة للمشروع الحكومي، تجاوزت المليون توقيع، بعد أن تبيَّن، لمن وراء معارضة المشروع الحكومي، أن هذا القرار هو ما ينتظره اليمين، منذ زمان، في حين أن اليسار شبه منعدم، عدا بعض "المتمردين" في الحزب الاشتراكي وحزب شيوعي في شبه احتضار.
وفعلا استطاعت حركة "قانون الشغل: لا، شُكراً"، أن تجند الشارع الفرنسي وتبث الروح في الأحزاب الفرنسية المترهلة وفي المجتمع المدني، وخاضت نقاشات حادة، عبّرت عنها تظاهرات عمالية ونقابية عدة، وأيضاً حركة "واقفون، ليلا"، ومنح هذا الحراك السياسي والفكري والأيديولوجي دفعا معنوياً وسياسياً كبيراً لنوّاب يساريين نقلوا دفق الشارع والعمال إلى البرلمان، فاحتدمت النقاشات، ولم يجد رئيس الحكومة السابق مانويل فالس بُدّا من اللجوء إلى قانون 43-9 لمنع أي تصويت قد يُفشل المشروعَ الحكومي. والمضحك المبكي هو أن نفس الشخص، مانويل فالس، وهو الآن، مرشح للانتخابات الفرعية لليسار، يَعتبر هذا القانون غيرَ ديمقراطي ويطالب بإلغائه.
كذلك انطلقت حملة قوية من أجل "منح الجنسية الفرنسية للرماة السنغاليين"، أو ما تبقى منهم على قيد الحياة، "اعترافاً من الحكومة والدولة الفرنسيتين بدور هؤلاء في الدفاع عن فرنسا ومصالحها". هؤلاء الرماة الذين شاركوا في مختلف حروب فرنسا، الكولونيالية وكذلك حروبها ضد النازية.
وقد أطلقت الحملة السيدة عيساتا سيك، من أصول سنغالية، وهي منتخبة في بلدية بوندي، بضاحية باريس القريبة. واستطاعت الحملة أن تحصد توقيعات أكثر من 60 ألف شخص. ولكنها أيضا حصدت ما هو أهم، أي قرار الحكومة الفرنسية، وخصوصا وزارتي قدامى المحاربين، والداخلية، فتح نقاش والبدء في إحصاء هؤلاء "الرماة"، الذين يعيش معظمهم، وهم متقاعدون، في ظروف صعبة وبإمكانات هزيلة، مقارنة مع رفاقهم في السلاح من الفرنسيين.
وكم كانت النتيجة سعيدة، حين وجّه ممثلو هؤلاء "الرماة"، يوم 22 ديسمبر/ كانون الأول 2016 بيان شكر إلى عموم من ساعدهم في مسار اعتراف فرنسا بهم وبجهودهم وتضحياتهم. وأكّد أحد ممثليهم، في رسالة على الفيسبوك، أن "الدولة الفرنسية تعهدت بتسوية أوضاع هؤلاء وبمنحهم الجنسية الفرنسية".
الزمن تغيّر، ولا يمكن أن تُمارس السياسةُ بطرق الماضي، ولعل هذا ما يعزز الديمقراطية ويُقرّب المواطن من دائرة القرار.
تجدر الإشارة إلى أن الإعلام الأميركي شهد تحديات مماثلة في 2016، إذ فشل في تقدير مدى قوة وفاعلية الغضب المؤثر في نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بسبب "إدمان" الإعلام على استطلاعات الرأي التي تنبأت بفوز المرشحة الديمقراطية، هيلاري كلينتون، بالإضافة إلى اعتماده على مصادر مخضرمة رأت قواعد السياسة الأميركية أنها غير قابلة للتغيير، بينما انفصل عن المواطنين الأميركيين العاديين.
وقال الكاتب الأميركي، مايكل غودوين، إن "الإعلام تعامل مع تصرفات ترامب (الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب) الغريبة باعتبارها دليلاً على عدم أهليته، بينما بدا واضحاً أن هذه التصرفات ليست معياراً، على الأقلّ بالنسبة للناخبين في الولايات الأميركية التي حسمت نتائج الانتخابات الأميركية لصالحه". وأضاف غودوين أنه "كان واضحاً أن نظرة الـ63 مليون ناخب الذين صوتوا لصالح ترامب تختلف عن نظرة مراسلي صحيفتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست والمؤسسات الإعلامية الأخرى". علماً أن غودوين يعدّ من مؤيدي ترامب، ويعتبر نفسه "ديمقراطياً محافظاً".