قد تكون "الصدف"، أو مجموعة عوامل تراكمية، هي ما أدت الى "سطوع" نجم روسيا بشدّة في الأشهر الستة الأخيرة من العام الحالي، ورفضها الانصياع الى لغة المجتمع الدولي، الذي يفرض عليها العقوبات بسبب الأزمة الأوكرانية. ترفض موسكو اعتبار نفسها دولة "عادية"، كغيرها من الدول. وحتى تُرسّخ حضورها في عالم اليوم، لا بدّ من اتحادٍ اقتصادي يحاكي تطلّعات الطاقة وأنابيبها.
هدير أوكرانيا يتصاعد. شبه جزيرة القرم، تنفصل عن كييف وتنضم الى موسكو. الغاز عنوان أوّل في كل خفايا القضية الأوكرانية. وجد بوتين حلاً رائعاً، لكنه غير كافٍ: الاتفاق على مدّ الصين بما قيمته 400 مليار دولار من الغاز لـ30 عاماً.
لا يكفي الاتفاق مع التنيّن الآسيوي لحلّ كل المعضلات، بل تحتاج موسكو الى أكثر من ذلك، للتعويض عن أوروبا. أوروبا التي تقترب روسيا من خسارتها اقتصادياً، بالرغم من المحاولات الحثيثة لأقطاب الصناعة الألمانية، لاعتبارات تجارية، تمتدّ من موسكو الى حوض نهر الرور الألماني، من أجل إبقاء الأبواب مفتوحة معها.
في الواقع مهّد بوتين، عبر الاتفاق مع الصين، لإخراج "الاتحاد الاقتصادي الأوراسي" الى العلن. وهو الاتحاد الذي يصل، جغرافياً، بين الشرق الأوروبي وأقاصي آسيا، نحو جزر الكوريل، على تخوم اليابان، والمتنازع عليها مع الحكومة اليابانية. ومع روسيا البيضاء وكازاخستان، تُعتبر البداية واعدة. والحرب "الفجائية" بين أرمينيا وأذربيجان، انتهت بجلسة "أهلية بمحلية"، في منتجعات سوتشي الروسية، يوم الأحد الماضي. يريد بوتين اغلاق كل أبواب الخلافات "الداخلية"، الدائرة في أفق الاتحاد الجديد، للإبحار بقارب الروبل الى عوالم أخرى.
يتصرّف بوتين "بحكمة". يريد توسيع الآفاق العالمية للاتحاد الأوراسي. حوّل عينه الى أميركا الجنوبية. الحديقة الخلفية للولايات المتحدة. يريد استغلال كل زاوية ممكنة، كبديل عن السوق الأوروبية. قد يثير هذا قلق الصينيين أنفسهم. لكن الأمر ليس كذلك حتى الآن. الولايات المتحدة وأوروبا هم "الأعداء" الحاليون، الصين قد تكون "عدواً" لاحقاً، لا اليوم. بوتين ليس ليونيد بريجينيف، والرئيس الصيني، شي جين بينغ، ليس الحزب الشيوعي الصيني في أواخر ستينيات القرن العشرين، حين اشتبكت بكين وموسكو سياسياً، واستغلّت واشنطن خلافهما، لتخترق عبر لعبة "كرة الطاولة"، ورائدها هنري كيسنجر، سور الصين العظيم.
اليوم واشنطن غير قادرة على لعب دور "مدمّر العلاقات". فـ"الفيتوات" المشتركة بين بكين وموسكو في وجه القرارات الأممية التي استهدفت نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، خير دليل، على اتفاقهما على مواجهة الأميركيين ومن خلفهم الأوروبيين. لا يريد الثنائي التفريط بلحظة "تاريخية"، يلمعان فيه مع باقي دول "البريكس": البرازيل، والهند، وجنوب افريقيا، بالرغم من كون "الاغتصاب" مرتبطاً بالهند، و"الجريمة" بجنوب افريقيا، و"حرب العصابات" بالبرازيل. وبالرغم من أن الفقر، وتكرار خطيئة دول أخرى، عُدّت من أبرز دول العالم الناشئة، بسبب النمو السريع وغير المتوازن، أمر وارد للغاية، وهي خطيئة عدم الالتفات الى التقديمات الاجتماعية والطبية، النقطة الأهم التي تتقدم فيها الولايات المتحدة وأوروبا على "البريكس".
الأهداف الاقتصادية الكبرى للاتحاد الأوراسي، تبقى أساس التوسّع السياسي الروسي. فروسيا، ومن خلال دورها "التصالحي" بين أذربيجان وأرمينيا، دفعت في اتجاه "ابتلاعهما" اقتصادياً، وإعادة الحياة الى اتحاد سوفييتي غابر، وخنق خط الغاز "أنابوكو" حتى إشعار آخر. والعلاقة المستجدّة مع مصر، عن طريق الرئيس عبد الفتاح السيسي، ليست سوى خطوة تهدف الى: تأمين سوق للأسلحة الروسية في الخليج العربي، على اعتبار أن مصر حليفة للسعودية، وأن السيسي زار الرياض قبل سفره الى روسيا. وتأمين بيع الأسلحة الروسية خليجياً، سيُساهم في وضع حدّ للمعارض العسكرية السنوية للأميركيين والأوروبيين في بلدان الخليج.
الشرق الآسيوي للطاقة والشرق الأوسط للسلاح. معادلة، يريد بوتين استغلالها، خصوصاً أن العلاقة الأميركية مع بعض دول الخليج، تراجعت في شكل مخيف، في عهد الرئيس، باراك أوباما، الذي لم يُرض لا الاسرائيليين ولا العرب في إدارة ملف الصراع العربي – الاسرائيلي. وفي اللغة الجيو ــ بوليتيكية، فإن وصول روسيا الى القاهرة، لن يشبه وصول السوفييت الى مصر أيام، الرئيس، جمال عبد الناصر. فالأيام والظروف والمعطيات تختلف كثيراً. في السابق كان البحث عن أسواق جديدة يُعدّ أمراً مهماً، لكن ليس الأهم. حالياً، الأسواق هي من تُسيّر العالم السياسي، في ظلّ العولمة الاقتصادية.
الخطوة المقبلة لروسيا، تتمحور حول تدشين "الاتحاد الاقتصادي الأوراسي" مطلع العام 2015، والتمهيد لاختراق وسط آسيا، نحو المحيط الهندي، خصوصاً في ظلّ رفض أفغانستان الرسمية، حتى الآن، توقيع اتفاق مع الحكومة الأميركية وحلف شمال الأطلسي، من أجل استمرارية عمل قواتهما في البلاد، بعد نهاية العام 2014. فوجود الأطلسي والأميركيين في أفغانستان، قادر الى حدّ ما، على لجم اندفاعة بوتين نحو توسيع الاتحاد الجديد، والربط بين الصين والهند والوسط الآسيوي، وقطع طريق الحرير بين أوروبا والصين. في اختصار، يريد بوتين إحياء اتحاد سوفييتي جديد، بلغة اقتصادية.