بعد مرور 66 عاماً على النكبة في فلسطين المحتلة، لم يعد الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي حول القدس يقتصر على الجانب العسكري، بل أصبح المال هو السلاح الفتاك الذي استخدمه الاحتلال لتهويدها، وفي المقابل كان سلاح الاستثمارات الفلسطينية ضعيفاً ومترهلا، ولم يقوَ على الصمود.
ولم يتعد مجموع ما أنفق من شراء عقارات من قبل المستثمرين الفلسطينيين 50 مليون دولار حسب مراقبين، في مقابل إنفاق المستثمرين الإسرائيليين، مئات الملايين بل والمليارات من الدولارات، محققين أطماعهم بقدس أخرى طابعها يهودي.
ولم يكن مبنى البريد المركزي في شارع صلاح الدين بقلب القدس العربية المحتلة آخر المباني والعقارات التي يفقدها المقدسيون وتضيع من بين أيديهم، رغم أن الفرصة أمام المستثمرين الفلسطينيين كانت متاحة لاستعادتها وتخليصها من قبضة الاحتلال.
قبل ذلك كان مبنى المجلس الإسلامي الأعلى في القدس الغربية، والذي كان مقرا للحاج أمين الحسيني، يتسرب بصمت إلى أثرياء يهود من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا مقابل 30 مليون دولار دفعت بسهولة، ليتحول هذا المبنى إلى نزل لهؤلاء الأثرياء يطل في مشهد سحري على القدس العتيقة.
احتلال المباني
وتسرب فندق شبرد في الشيخ جراح، وكذلك منزل مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، حيث أزيل الفندق تماما وعلى أنقاضه تنشأ حاليا عشرات الوحدات الاستيطانية بتمويل مباشر من المليونير اليهودي إيرفينغ موسكوفيتش.
وقريبا من هذا المبنى سقطت في قبضة المستثمرين اليهود عشرة عقارات على الأقل، أشهرها عقارات آل الكرد وحنون، وبعضها حول إلى كنيس.
أما في البلدة القديمة من القدس، فسقطت مبان مهمة من أشهرها مبنى دير مار يوحنا التابع للكنيسة الأرثوذكسية، وتمكن موسكوفيتش وغيره من الأثرياء اليهود من السيطرة على نحو 70 عقارا دفعوا مقابلها لحارس أملاك الغائبين ولسماسرة عشرات الملايين من الدولارات، وكان الاستثمار الأهم بالنسبة إليهم توطين تلك العقارات جميعا بمئات المستوطنين، ليرتفع عددهم داخل أسوار المدينة المقدسية إلى أكثر من أربعة آلاف مستوطن.
ثم امتد أخطبوط الاستثمار هذا إلى بلدة سلوان جنوب الأقصى، وتمكنوا من إسقاط نحو 40 عقارا بأيديهم، ثم اتجهوا شرق البلدة القديمة حيث حي الطور وسيطروا بملايينهم على عدة بنايات تطل مباشرة على الأقصى.
استثمارات الفلسطينيين
يروي مقدسيون عشرات الفرص لتحرير عقارات كانوا عرضوها على أثرياء منهم في الخارج، لكن هذه العروض لم تلق اهتماما تستحقه، بما في ذلك مبنى البريد المركزي الذي ظل معروضا للبيع دون أن يعيره أحد اهتماما، فيجرؤ على شرائه.
قليل جدا، وبعدد أصابع اليد الواحدة فقط، غامر عدد من الأثرياء الفلسطينيين بشراء بعض العقارات، كان العقار يشترى ليغلق، أو ليؤجر إلى شركات خاصة، ولم يستثمر مثلا في التخفيف من معاناة من يبحثون عن مساكن تؤويهم.
ويقول برنارد سابيلا، النائب في المجلس التشريعي الفلسطيني، ان مشكلة القدس تكمن في غياب ليس فقط الرؤية الاستراتيجية التي يمكن تحويلها الى خطة عمل وتطبيقها على ارض الواقع، وانما في غياب رؤية متكاملة تأخذ بعين الاعتبار العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبعد الديني والقومي كذلك.
وتابع" هناك إذن فراغ يستفيد منه من يريد ان يستفيد، ومن هنا فإن الاستثمار في القدس يقع في هذا الفراغ، ويصبح استثمارا الهدف منه شخصي اقتصادي بحت ولا يمت لأي توجه متكامل، وما دام الوضع كذلك فإن الأمل بالنهوض بالواقع يبقى محدودا.
أثرياء الاحتلال
بدوره، رفض مدير دائرة الخرائط في بيت الشرق، خليل تفكجي، وصف ما يقوم به بعض رجال الأعمال الفلسطينيين بالاستثمار، وقال" ليس استثمارا أن تشتري عقارا في القدس ثم تغلق هذا العقار أو تقوم بتأجيره لتنمي ثروتك، ولا تنمي حضورك الوطني والإنساني، كما يفعل الإسرائيليون الذين "يمشطون" القدس القديمة والأحياء المحيطة بها بحثا عن عقارات يشترونها ليوطنوا فيها مستوطنين، أو يحولوها إلى كنس ومدارس تلمودية، كما يفعل المليونير اليهودي إيرفينغ موسكوفيتش المقيم في الولايات المتحدة الأميركية، حيث يستثمر في شراء العقارات وتوطينها بالمستوطنين مائة مليون دولار سنويا".
وضرب تفكجي مثالا على هزالة وضعف الاستثمار الفلسطيني وتوجهه فقط نحو تسمين جيوب بعض المستثمرين، عددا من العقارات اشتراها هؤلاء المستثمرون، ثم ما لبثوا أن أغلقوها، كما هو الحال بالنسبة لفندق قصر الحمراء.
وأشار إلى أن مجموع ما أنفق من شراء عقارات من قبل المستثمرين الفلسطينيين لم يتعد 50 مليون دولار، في مقابل مئات الملايين التي ينفقها المستثمرون الإسرائيليون، ورجال أعمال يقيمون في أميركا، وكندا، وأستراليا وبعض البلدان الأوروبية، وكان أحدث شراء لعقارات تمكن هؤلاء من شراء مبنى البريد المركزي في قلب شارع صلاح الدين بالقدس، وتحويله إلى كنيس يهودي.
ولا يحصى عدد العقارات التي استولى عليها الأثرياء اليهود، بموجب عملية استثمار لأهداف "وطنية" بزعمهم، ومنها شراء مبنى ضخم على جبل الزيتون بخمسة ملايين وتحويله إلى بؤرة استيطانية يطلق عليها "بيت أوروت"، أي "بيت النور"، وتحويله مؤخرا إلى مستوطنة صغيرة تضم 22 وحدة استيطانية، تم توطينها بالمستوطنين، إضافة إلى شراء المليونير موسكوفيتش أراضي في رأس العمود شرق المسجد الأقصى وبناء مستوطنة أطلق عليها "معاليه هزيتيم" وتضم حاليا 132 وحدة استيطانية، يقطنها أكثر من ألف مستوطن.
معركة خاسرة
إذن، هي معركة تكاد تكون خاسرة بالنسبة للمستثمرين الذين يفتقدون لرؤية وإستراتيجية وطنية تدفع بالاستثمار لأهداف تدعيم الحضور العربي والإسلامي في المدينة، في وقت وسعت فيه الجمعيات الاستيطانية المتطرفة من سيطرتها على عقارات المواطنين المقدسيين في مختلف أحياء البلدة القديمة، وامتد نفوذ هذه الجمعيات وبدعم حكومي إلى بلدة سلوان جنوب المسجد الأقصى.
ويقول زياد الحموري، مدير مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، إن الدعم الحكومي الإسرائيلي غير المحدود مكن المستوطنين المتطرفين من نقل معركتهم إلى أحياء متاخمة للبلدة القديمة مثل رأس العمود حيث شيدت هناك مستوطنة، وجارٍ العمل لبناء حي استيطاني جديد قريب منها باسم "نيئوت ديفيد" في المنطقة التي يقع فيها المقر السابق لقيادة اللواء الجنوبي للشرطة الإسرائيلية الذي نقلت ملكيته إلى جمعيات استيطانية.
ويستهدف ذلك تغيير التركيبة الديمغرافية في تلك المناطق بالنظر إلى الزيادة المستمرة في أعداد المقدسيين حيث وصلت نسبة السكان المقدسيين في الأعوام الثلاثة الأخيرة إلى نحو 36%، فيما تخشى الدوائر الإسرائيلية وصول هذه النسبة حتى العام 2015 إلى أكثر من 40%.
ويشير الحموري، إلى أن دعم هذا الاستيطان، وما يتفرع عنه من استثمارات في مجالات البناء والعمل والثقافة يشكل أفضلية من الدرجة الأولى لحكومات الاحتلال الاسرائيلي المتعاقبة.
وتزيد الموازنة الحكومية الإسرائيلية المخصصة سنويا للقدس عن 5 مليارات شيكل ينفق الجزء الأكبر منها على دعم الوجود الاستيطاني اليهودي، من ذلك 100 مليون شيكل تدفع سنويا لتعزيز الارتباط الثقافي والعقيدي لطلبة المدارس في الكيان الصهيوني، إضافة إلى تخصيص مبلغ 79 مليون شيكل تدفع سنويا لتمويل أعمال الحراسة للمستوطنين في القدس القديمة وسلوان.