في تونس، تحوّل الانتحار إلى ظاهرة، حتى إنه يلاحظ انتشاره بين الأطفال. تتنوع الوسائل كالشنق أو قطع الشرايين أو تناول الأدوية أو المواد السامة، وغيرها. بعد الثورة، اختار كثيرون من الذين قرروا وضع حد لحياتهم حرق أنفسهم. أخيراً، باتت هذه الظاهرة محلّ اهتمام المجتمع المدني، خصوصاً بعدما أهملته السلطات والجهات الرسمية. لا توجد دراسات أو إحصائيات باستثناء تلك التي أعدتها جمعيات أو منظمات أو أفراد (أطباء أو باحثون).
في السياق، كشف المرصد الاجتماعي التابع للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، عن ارتفاع حالات الانتحار لتبلغ 405 حالات عام 2011، لتنخفض إلى 221 حالة عام 2012، و184 حالة عام 2013، أي بمعدل 19 حالة وفاة شهرياً. أضاف أنه خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة (أغسطس/آب، سبتمبر/أيلول، أكتوبر/تشرين الأول)، وضع 46 شخصاً حداً لحياتهم، لافتاً إلى أن هذا الرقم مقلق، ويتطلب اهتمام السلطات. علماً أن المقبلين على الانتحار ينتمون إلى مختلف الشرائح العمرية.
من جهتها، أحصت الوزارة أخيراً 304 حالات انتحار خلال العام الماضي، وهو أول رقم يصدر عن قسم الطب الشرعي. تجدر الإشارة إلى أن هذا الرقم يخالف تقديرات منظمة الصحة العالمية، التي أشارت إلى أن عدد حالات الانتحار على المستوى الوطني وصلت إلى نحو 200 حالة، أي ما يعادل 2.4 في المائة لكلّ مائة ألف شخص.
في السياق، يقول الباحث الاجتماعي، طارق بلحاج محمد، لـ"العربي الجديد": "ما يفاجئنا هو أنه بات يقدم على الانتحار اليوم الشباب المتعلمون والذين يخلو سجلهم الصحي من أية اضطرابات نفسية وسلوكية. بالتالي، لا يمكن اعتبار شبابنا مرضى". يوضح أن "القهر يعد أحد أسباب الانتحار، ولا يتعلق بمرض، بل بأوضاع اقتصادية واجتماعية"، لافتاً إلى أن "الانتحار نوع من العنف الاجتماعي، لكنه عنف في أدنى درجاته، لأنه ليس موجهاً للآخر، بل للذات". يشير محمد إلى أن "ارتفاع حالات الانتحار لدى المثقفين يعود إلى تراجع التعليم، وتغييب فضاءات التعبير والاحتجاج (تقتصر على الملاعب الرياضية)، وعجز المجتمع السياسي، بأحزابه وهياكله، والمجتمع المدني بجمعياته وهيئاته ونقاباته، عن احتضان الشباب، وتبنى مشاغلهم بعيداً عن الشعارات والمزايدات".
رسالة
"أمي وأبي، لم أكن أحب الذهاب إلى المعهد، لكنكما أصررتما على الأمر. تعذّبت كثيراً ولم أعد أحتمل. أريد الموت". كلمات كتبتها الطفلة شيراز (12 عاماً) قبل أن تجدها عائلتها معلّقة على شجرة لوز، وقد اختارت الانتحار. أثارت قضية انتحار شيراز جدلاً كبيراً وسط الرأي العام الذي تساءل عن الأسباب التي دفعت الطفلة إلى الأمر. في ذلك الوقت، أرجعت بثينة والدة الضحية أسباب انتحار ابنتها إلى تردي الأوضاع المعيشية، والظروف القاسية التي عاشتها في المعهد الذي يبعد عن مقر سكناها 20 كلم. شكت الطفلة من سوء المعاملة والوجبات الغذائية المتعفنة، عدا عن النقص في الأغطية والاكتظاظ. وأشارت إلى أن ابنتها كتبت معاناتها في رسائل عدة. وفي كل مرة كانت تختم رسالتها بعبارة "أريد أن أموت".
قضية انتحار شيراز ليست الأولى؛ فقد سجل المرصد الاجتماعي إقدام 16 طفلاً على الانتحار خلال الأشهر الستة الماضية. عائلة شيراز علمت سبب إقدام ابنتهم على الانتحار، لكن عائلات أخرى لم تعرف أسباب إقدام أطفالهم على هذه الخطوة.
قبل شيراز، أقدمت طفلة من معتمدية حفوز في محافظة القيروان على الانتحار، بعدما رمت نفسها من الطابق الأول للمعهد احتجاجاً على طردها، إلا أنه جرى إسعافها على الفور. أيضاً، شنقت طفلة (عشر سنوات) بتاريخ 12 نوفمبر/تشرين الثاني نفسها، بسبب علاماتها في المدرسة. يقدم بعض الأطفال على الانتحار بسبب مشاكل عائلية، وفقاً للمرصد الاجتماعي التونسي. لكن تبقى أسباب الانتحار مجهولة بالنسبة لذوي كثيرين من الذين اختاروا وضع حد لحياتهم. ظاهرة الانتحار لدى الأطفال دفعت وزارة الصحة إلى التحرك ودق ناقوس الخطر، مطالبة بدراسة هذه الظاهرة، والعمل على إعداد سجل وطني للانتحار، لإحصاء الحالات والأسباب التي تدفعهم إلى ذلك.